السرّ الجماعيّ المسيحي الذي اسمه ميشال عون

منذ أواخر الثمانينيات، والمزاج الشعبي الأكثري في الإجتماع المسيحي اللبناني يؤيد وصول العماد ميشال عون، قائد الجيش آنذاك، ثم رئيس الحكومة العسكرية المؤقتة بعد انتهاء عهد الرئيس أمين الجميّل إلى الرئاسة.
حافظ هذا المزاج على نفسه لفترة زمنية طويلة، انتقل خلالها عون من قصر بعبدا وحربه مع النظام السوري، ثم مع القوات اللبنانية، ثم الاجتياح السوري لمناطقه، إلى السفارة الفرنسية ثم المنفى الباريسي، ثم الكونغرس الأمريكي وقانون محاسبة سوريا، ثم العودة بعد تسابق أخصام وموالي الوصاية المندثرة على اسقاط التعقبات القانونية بحقه، ثم افتراقه عن «قوى 14 اذار» بعد أن وضحت نيّتها تحجيمه، وعدم تبنيه للرئاسة، إلى اكتساحه الدوائر المسيحية في أول انتخابات تجري بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان، بالتحالف مع رموز محسوبة على عهد الوصاية السورية، في وقت كانت فيه «قوى 14 آذار» متحالفة مع حزب الله وحركة أمل هي الأخرى.
حافظ هذا المزاج المسيحي المؤيد لوصول عون إلى الرئاسة على نفسه قبل وبعد توقيع الجنرال التفاهم مع «حزب الله» في شباط 2006، وقبل وبعد زيارته لدمشق، و»مصالحته التحالفية» مع نظام بشار الأسد، وقبل وبعد موقفه المؤيد لهذا النظام في مواجهة الثورة السورية، واشتدّ هذا المزاج الشعبي المسيحي مع تحلّل جبهة «14 اذار» بدءاً من الافتراق حول مشروع القانون الانتخابي الذي تقدّم بمسودته «اللقاء الأرثوذكسي»، على قاعدة انتخاب كل طائفة لنوابها على حدة، ورغم تقدم عون في السن، وفشل تياره في تحريك الشارع بشكل جماهيري كلما تداعى إلى ذلك تحت يافطة «حقوق المسيحيين»، ورغم الازمة الهيكلية في تياره، نظراً لاستياء الكوادر المجربة فيه من حكم «سلالة المصاهرة» المتسيّدة، فان المزاج الشعبي المسيحي المؤيد لوصوله للرئاسة صار أوضح، مع توقيع تفاهم معراب بين عون والقوات اللبنانية أواخر العام الماضي، وسحب الدكتور سمير جعجع ترشيحه لصالح عون، في مقابل تأييد «تيار المستقبل» قبل ذلك ببضعة أسابيع لمبادرة تسوّق لسليمان فرنجية رئيساً، وهو الذي كان حتى ذلك التاريخ عضواً في التكتل النيابي الذي يرأسه عون.
تقدّم السنّ بالضابط البونابرتي العصبيّ، وانتقلت به الأماكن والمواقع والتحالفات. وثبتت اثنتان: رغبته الشديدة في رئاسة الجمهورية ـ ومظلوميته تبعاً لرحمانه منها، وتعاطف المزاج المسيحي الأكثري مع هذه الرغبة، مع تفاوت في الحماسة لذلك عبر السنين، فأحياناً يبدو الانتظار المسيحي بشأن عون واقعياً من طرف من يؤيد وصوله، وأحياناً يطرحونه هم بشكل مهدوي. أكثرية المسيحيين تؤيد عون لسبب متصل برغبته في أن يكون رئيساً لا أحداً غيره. تأييده لأسباب أخرى هو المتغير. تأييده كمشروع رئيس جمهورية هو الأساس. وبعد تفاهم معراب، وقبله «اعلان النوايا»، صار ينظر إلى هذا المزاج على انه «الاجماع المسيحي»، ولو انه اجماع تكفلت الانتخابات البلدية باظهار نسبيته وهشاشته، رغم ان نفس هذه الانتخابات اظهرت ان التيار العوني هو التيار الأول بين المسيحيين.
لماذا أيّدت، وتؤيد، أكثرية مسيحيي لبنان وصول هذا الشخص بالذات، إلى سدّة الرئاسة، منذ ثلاثين عاماً، وهي مدّة قياسية لم تعط لأي زعيم ماروني قبله (فبشير الجميّل، مع كل شعبيته في الشارع المسيحيّ، ظاهرة حربية اختصرها التاريخ في بضع سنوات، واغتيل وهو في ريعان شبابه)؟ ببساطة شديدة، لأنها تعتقد أنها تجد من خلاله «مفتاحاً رمزياً عصبياً»، لتمكين المسيحيين من الاستفادة من عناصر القوة التي ما زالوا يحتفظون بها في لبنان، كمثل موقعهم في التركيبة العسكرية النظامية، الجيش اللبناني، وحضورهم ودورهم في بيروقراطية الدولة، وجهازها القضائي، بما يزيد نوعياً عن الحجم العددي على الصعيد الديمغرافي، وغلبتهم التربوية ـ في بلد ما زالت نواة التعليم المدرسي والجامعي فيه، و«مصعد النخب» في عهدة الإرساليات، وغلبتهم في البرجوازية اللبنانية، فأكثرية «البرجوازية اللبنانية» من عائلات مسيحية وان كان «أكثر رأس المال» في أيدي متمولين مسلمين، وغلبتهم بين اللبنانيين والمتحدرين من أصل لبناني في «الحاشية الديبلوماسية» الأمريكية أو الفرنسية، هذا فضلاً عن كون «المنحسر الجغرافي» الذي يتكثف فيه الوجود المسيحي الجبل لبناني، متصلاً ببعضه البعض، بخلاف تقطّع «وجزائرية» الوجودين السني والشيعي على الأرض اللبنانية.
ثمة حسبة مسيحية «سرية» اذاً. هذه هي عناصر قوتنا. سرّ يكاد يعلمه جميع المسيحيين بشكل أو بآخر ولا يفشونه لأي من المسلمين. كل ما يفشونه هو اسم العماد ميشال عون! وكل مرة في مواجهة من يعتبرونه يعترض سبيل «القوى الموضوعية التمكينية» للمسيحيين في الصراع اللبناني.
بطبيعة الحال، يجنح هذا «السر الجماعي» إلى المكابرة على الوقائع التي انتهت بها الحرب اللبنانية، ووقائع الديمغرافيا التي مالت لصالح المسلمين بشكل متزايد عقداً تلو عقد، لكنه «سر جماعي» يستفيد أيضاً من المكابرات المقابلة على مزايا الجغرافيا السكانية المسيحية، المتصلة ببعضها البعض، والطابع المسيحي المستمر للشرائح الأساسية من البرجوازيتين الصناعية والتجارية اللبنانية، والطابع المسيحي المتناقص مع مرور الزمن، لنواة جهاز الدولة اللبنانية، في مقابل استمرار التفاوت بين وضوح حضور جهاز ومؤسسات الدولة في المناطق المسيحية من لبنان، وبين هشاشة هذا الحضور في المناطق السنية والشيعية، وخصوصاً في تلك الأخيرة، حيث الأمرة لـ»الكيان الدولتي الموازي» لـ«حزب الله».

إقرأ أيضاً: «حزب الله» يهوّل في وجه الحريري: «انتخب عون»!

أصعب رهان للحفاظ على شعبية مسيحية اجتازه عون بلا مشاكل جدية حتى الآن. وهو تحالفه مع «حزب الله». ساهمت عوامل مختلفة في التقليل من التداعيات السلبية لهذا التحالف على شعبيته المسيحية. منها الترويج لمنطق «تحالف الأقليات». منها الاحتجاج بأن الصراع الدستوري على السلطة الاجرائية يدور أساساً بين الموارنة والسنّة. منها التنظير إلى أنّ الصراع على المركز الأيديولوجي للكيان اللبناني هو بين بيروت وبين جبل لبنان في حين ان المناطق الشيعية «رديفة» في هكذا صراع. ومنها، للمفارقة، البناء على ان «حزب الله» خطر على عناصر القوة التمكينية للمسيحيين، وبالتالي من الأفضل التفاهم معه، ودفعه لمواجهة مذهبية مرهقة مع الندّ السنَي الأكثر مدنية، والذي يزاحم المسيحيين اقتصادياً وادارياً وثقافياً. ومنها، زيادة في المفارقة، ان «حزب الله» الموضوع على لوائح الإرهاب الغربية، أكثر مطواعية، لأنه يحتاج لـ«الغطاء المسيحي»، أو «تبيض مسيحي»، في مقابل زعامة آل الحريري التي تتمتع بشبكة الاتصالات الدولية الواسعة، والمحتفى بها كمعتدلة.
في المقابل، ظاهرة عون كانت تتمتع بنسبة معينة من القبول في الشارع السني منذ نهاية الثمانينيات، وحافظت على مقبوليتها حتى رجوعه من المنفى، وظلت تضعف من حينها نظراً لاعتماد الجنرال لهجة فظة جداً تجاه الزعامة السنية الكبرى في لبنان، ثم تحالفه مع «حزب الله»، ودعمه للنظام السوري في مواجهة الثورة.
بقي أن مشكلة عون «مع السنّة» تجد عناصرها منذ نهاية الثمانينيات، منذ رفضه لاتفاق الطائف، حين ايقن انه اتفاق سيحول بينه وبين الرئاسة. أما امكانية تفاهمه مع «حزب الله» فموجودة أيضاً من وقتها، رغم تأخر تفعيلها، حيث ان الحزب عبّر أواخر الثمانينيات هو أيضاً عن رفضه اتفاق الطائف.

إقرأ أيضاً: لماذا لن ينتخب «المستقبل» ميشال عون؟
لا يجاهر عون اليوم برفضه الطائف، بل يحتج على الطائف بالطائف، من خلال فكرة «الميثاقية»، التي تعطي المجال لأي زعامة أن «تحرد» وتقول ان حق طائفتها لم يصل كاملاً إلى أصحابه، طالما هي لم تمثل بشكل شرعي، أو لم يوزع عليها «ما يعود لها»، بالشكل العادل المشتهى. بالتوازي، ما وقعه عون مع «القوات»، من اعلان نوايا وتفاهم معراب يقيّده بـ«الطائف»، ويساهم في تبرئة «القوات» نفسها من تهمة مسيحية شعبية ضدها، بأنها الطرف الذي ارتضى اتفاق الطائف. بيد ان «التقيد النصي» بالطائف والدستور، لم يكن كافياً لحمل عون على المشاركة في جلسة انتخاب رئيس للجمهورية. لن يمنح النصاب لجلسة إلا إذا كان فيها بحكم المرشح الوحيد. ويعتبر المجلس النيابي غير شرعي إذا لم يخفض له مستوى اللعبة إلى هذه المرتبة. ومع ان المرشح الاساسي في مواجهته هو سليمان فرنجية، حليف بشار الاسد و«حزب الله» هو الآخر، فإن الحزب الذي يقول بأولوية عون على فرنجية، يشدد في نفس الوقت على حرية فرنجية في الاستمرار بالترشح، أي استمرار حبكة تعطيل حظ هذا بحظ ذاك.
كل يوم يزيد من عمر الفراغ يجترح فيه سيناريو جديد لوصول عون، لكن كل يوم من عمر الفراغ يزيد الامور صعوبة بالنسبة للتوصل لانتخاب اي رئيس كان أساساً، بالاعتماد على الجلسات المقفلة والاتصالات وحدها. من دون حدث، أو حوادث، ميدانية، من الصعب تخيل الدافع الذي سيجعل النواب ينتخبون رئيساً، او يقرون قانون انتخابات نيابية جديدة، مع اقتراب مدة ولاية المجلس الممددة الثانية من الانتهاء. يبقى أن المسيحيين يزدادون اقتناعاً بـ«عناصر قوتهم الموضوعية الراهنة والمستقبلية» في حين ان المسلمين، سنة وشيعة، يزدادون اقتناعاً بأن «المسيحيين ماضي البلد». الفراغ الدستوري هو شكل تعايش هادئ نسبياً بين هاتين القناعتين.

(القدس)

السابق
بالفيديو: اسرائيل تريد بشار الاسد الجبان الذي يقتل شعبه
التالي
اعتذار أم مزايدة على الحكيم والجنرال؟