الليلة البيضاء

بعض المواعيد من الافضل انتظارها بدل التطلع إليها. منها، على سبيل المثال، انتخابات الرئاسة الاميركية أو الفرنسية، أو البرلمانية البريطانية. فذات مرة انتظرت الناس فوز جيمي كارتر، فإذا بالفائز الممثل المتقاعد رونالد ريغان، الذي سيدخل التاريخ على أنه بطل انهاء الحرب الباردة. وفي فرنسا كانت الناس – ومعها العالم – تستبعد وصول رئيس اشتراكي إلى الإليزيه، وخصوصاً في حدة فرنسوا ميتران. لكن الذي وصل إلى الإليزيه كان المرشح الدائم ضد شارل ديغول، الاشتراكي ميتران. وفي بريطانيا كانت الاستطلاعات ترجّح المحافظين، فإذا بالفائز عمّالي مغمور، طوني بلير. من الصعب ضبط المناخات والمزاجات للأنظمة الديموقراطية. فالقضايا التي يتعلق بها الرأي العام لا علاقة لها بمنجزات التاريخ، وإنما هي يوميات يعلّقها في روزنامته على جدران المطبخ. فالحياة بالنسبة إليه هي هناك، أولاً وأخيراً. ولعل المثال الأكثر تداولاً في هذا الباب يوم اسقط الناخب البريطاني ونستون تشرشل بعد انتصاره الهائل في الحرب وانقاذه بريطانيا من التعدي النازيّ، لكي ينتخب كليمنت آتلي بسبب التذمر من أسعار الزبدة وتقنين الاعاشات.
تختلف انتخابات الرئاسة الاميركية عن سواها بأنها عرض مسرحي مثير، تزيد في إثارته المناظرات بين المرشحين وعمليات التصفية والنزعة الحزبية العميقة لدى الاميركيين. وتُستخدم في هذه المعارك جميع انواع الاسلحة الدعائية، تموّلها التبرعات، وتستغلها الشركات الكبرى مثل أي موسم زراعي، أو الاعلان عن هاتف جديد. وقد تصدّر المعركة الحالية منذ البداية شخص منفّر السلوك، منفّر المظهر، منفر الخطاب، ومنفر البذاءات، هو دونالد ترامب. اعتقد الجميع أنها مسألة اسابيع ويخرج من السباق عائداً إلى تجارة العقارات. لكن ترامب أحبط جميع قواعد التوقّع. كان الظن السائد أنه لا يمكن أن يصبح مرشح الحزب الجمهوري، لكنه تخطى جميع العقبات وارغم كبار الحزبيين على التراجع عن معارضته. وإذ اصبح المرشح الجمهوري، ظنت الناس مرة أخرى، أن لا حظّ له في وجه الديموقراطية هيلاري كلنتون، التي تجر خلفها اربعين عاماً من العمل السياسي، في مواقع ومناصب لم تبلغها امرأة من قبل، اولاً كزوجة حاكم في أركانساو، ثم زوجة نزيل البيت الأبيض، ثم عضو في مجلس الشيوخ عن نيويورك، أهم الولايات الاميركية، ثم وزيرة للخارجية تقطع خلال مدة عملها مليون ميل من التعب والعرق والطائرات. ويُحسن أن يُراجع في هذا الباب كتاب الصحافية اللبنانية كيم غطاس التي رافقتها في رحلة المليون ميل.
لكل معركة رئاسية في أميركا لون ما. معركة جون كينيدي وريتشارد نيكسون كان لونها جاذبية الشاب الأنيق ولا جاذبية منافسه الريفي. ومعركة جيمي كارتر القادم من الجنوب الزراعي تميزت بصورة الرجل البسيط الذي يحمل حقيبته على كتفه، وهي الصورة التي رسختها شركة الاعلان التي توفق بها. واستغل رونالد ريغان صورته كممثل لا يصل إلى الدورالأول، ولا يجيد التحدث بطلاقة من غير أن ينسى بعض الكلام، ليطرح صورته كحاكم ناجح في ولاية كاليفورنيا وضابط وطني في الحرب الثانية. سمة المعركة الحالية انها كانت الاكثر بذاءة وفجاجة ولجاجة وابتذالاً بسبب لغة دونالد ترامب وسلوكه. راهن ترامب على كل ما ترفضه النُخب وتصفق له الدهماء. اتكل في الدرجة الأولى على أن ذاكرة الجماهر لا تتعدى حافة الإذن. ففي امكانه أن يقول أي شيء اليوم، وعكسه في اليوم التالي. يُغضب أي جماعة، ثم يتوسلها بعد غد. هكذا فعل مع جميع الأقليات التي هاجمها باسلوب عنصري هابط، ثم عاد وحاول استرضاءها. لقد اكتشف أنه من دون اصوات الاقليات، لن يستطيع الفوز بالسباق ضد سيدة تمثل أولاً حزب الاقليات، وثانياً زوجها الذي فاز بأصوات تلك الاقليات، وثالثاً كونها المرأة الأولى تخوض معركة البيت الأبيض. وفي الحساب دائماً أن الغرب القديم، او القارة المترهلة، كما وصفها دونالد رامسفيلد وزير جورج دبليو، قد سبقت العالم الجديد في تسليم القيادة إلى المرأة. مارغريت تاتشر في بريطانيا، وأنغيلا ميركل في المانيا، وفي الحالتين مرحلة بالغة الأهمية من مراحل الزعامة الاوروبية. فقد وقفت مارغريت تاتشر إلى جانب تماثيل التاريخيين أمثال غلادستون وديزرائيلي وتشرشل، وكادت لولا هيبة التاج، تتعادل مع فيكتوريا. أما الفراو ميركل فظاهرة في صفوف المستشارين، وقد تخطت بابعاد سمعة فيلي برانت الإنسانية وهلموت كول الذي اعادت المانيا في ظله توحيد نفسها بعدما شقتها الحرب العالمية إلى جزءين، واحد عند “رأس المال” وكارل ماركس، والثاني عند الرأسمالية والاحتلال الاميركي.
لا يعني تغير الرئاسات والمستشاريات والاحزاب للعالم الخارجي، ما تعنيه الرئاسة الاميركية. فالولايات المتحدة إذا تمددت أحدثت فيضاناً كارثياً، وإذا أحجمت احدثت فراغاً مضراً، كما تبين من انزواء باراك أوباما كرد فعل على الهجوميات الرعناء التي قام بها سلفه جورج دبليو. شئنا أم أبينا سوف يُمضي العالم ليلة بيضاء في الثامن من تشرين الثاني المقبل. والليلة البيضاء، هي التي يمضيها المرء من دون نوم، كما في قصة دوستويفسكي الرائعة عن عاشقي بطرسبرج وجسرها الشهير وساعتها التي تدق طنانة عند منتصف الليل.
العالم خائف من الاحتمال الصعب، أي فوز رجل بلا أي خصائل، أو ميزات أدبية أو اخلاقية أو اجتماعية. وهو – اي العالم – ليس متحمساً أيضاً لفوز سيدة تصل إلى رهانها السياسي الأخير وهي واهنة السمعة والصحة معاً. ونحن موعودون خلال هذه الفترة القصيرة بالمزيد من سوقيات السيد ترامب، كما توحي شركة الاعلانات التي كلّفها تلوين شتائمه لمنافسته. لم يتورع عن سوق أي تهمة، بما في ذلك الدخول إلى مخدع هيلاري وبيل كلينتون. ومعروف، في أي حال، أن المخدع كان مليئاً بالظلال والاشباح، فالحاكم السابق لولاية أركنساو، المعروفة عند الاميركيين بولاية الدجاج، كان مشهوراً بحبه للنساء كيفما اتفق. ولذا، فإن معظم اللواتي ذهبن إلى المحاكم ضده، كنَّ من الدميمات. غير ان حكايات الرئيس السابق في ولايته، ثم في البيت الأبيض، لا يمكن أن تبرر في مجتمع بيوريتاني كمعظم المجتمع الاميركي، السفاهة التي لعلع بها ترامب منذ بداية حملته.

إقرا ايضًا: كليتنون تفشل إدعاءات ترامب وتعود من وعكتها لإستأنف حملتها الإنتخابيّة
تصف “النيويورك تايمس” الحملة الحالية بأنها “بشعة”. ويعتقد مراسلوها حول العالم، أن اسوأ ما في الأمر هو الاثر الذي قد تتركه سفاهة ترامب على المعارك الانتخابية في دول العالم الأخرى. فهو لم يكتفِ بشتم منافسيه جميعاً، بل ذهب إلى حد لعنهم. ويقول استاذ من جنوب افريقيا، إن الولايات المتحدة التي كانت ترسل المراقبين للإشراف على انتخابات الدول المتخلفة، اصبحت بعد ظاهرة ترامب، في حاجة إلى من يُراقب المستويات الاهلية والعقلية للمرشحين. وقد جمعت إحدى المؤسسات في شريط اعلاني واحد، مجموعة القباحات التي تلفظ بها المرشح الجمهوري، وليس منها أي واحدة صالحة للنشر هنا. حتى الاعلان نفسه يبدأ بتحذير المشاهدين من أن بعض الألفاظ قد تسبب لهم نوعاً من الغثيان.
يحق للعالم أن يخاف من نتائج التاسع من تشرين الثاني، فربما يحصل المستحيل. وإذا ما فاز الرجل المتوتّر قد يصاب العالم اجمع، على الاقل في المرحلة الأولى، بهزّة سياسية واقتصادية كبيرة. وقد يتسبب دخول ترامب إلى نادي الرؤساء بخسائر مالية اضخم بكثير من التي تسبب بها خروج بريطانيا من الوحدة الاوروبية. أما إذا فازت السيدة الأولى بالمقام الأول ايضاً، فسوف تبدو معارك الحكم في الغرب جبهة نسائية ملونة. فالسنة المقبلة هي سنة الانتخابات في المستشارية الالمانية والرئاسة الفرنسية. في الأولى تخوض ميركل معركة الوجه الالماني مع معارضي اللجوء. وفي الرئاسة الفرنسية، تلعب ماريان لوبن الدور الأهم في تقرير شخصية الرئيس. حتى الآن هي الأقوى نفوذاً بين اركان المعركة، من الرئيس هولاند إلى المرشح المقاضى ساركوزي، وحتى إلى الوريث الديغولي اللائق والمعتبر آلان جوبيه. ويجب ألا ننسى طبعاً وجه المسز ماي، مناظرة المدرسة التي اصبحت سيدة داونينغ ستريت. المفارقة ان المرأة الاسيوية سبقت جميع الغرب إلى سدة الحكم. وقد فعلت ذلك عمن طريق انتخابات غير مطعون فيها، كما هي حال العالم الثالث عادة. ويقال إن جاكلين كينيدي شعرت بالغيرة من انديرا غاندي عندما قامت بزيارة الهند إذ رأت أن المرأة الهندية تمارس مساوة بيّنة في العمل السياسي، على رغم تخلّفها في الاوضاع الاجتماعية. من سري لانكا إلى دلهي مروراً بباكستان وبنغلادش، وصلت المرأة المسلمة، أو الهندوسية، إلى السلطة الفعلية قبل المرأة الغربية. وقد وقفت سيدة من كوريا الجنوبية إلى جانب زعماء العالم في قمة العشرين. وفي تايلاند وتايوان سيدة في القصر.

والسنة المقبلة أيضاً قد تكون امرأة امينة عامة للأمم المتحدة، فإذا انعقدت الجمعية العمومية في أيلول المقبل وحضرتها جميع السيدات، سيبدو المشهد مثل عرض ازياء محتشمة من آخر الدنيا في تشيلي إلى آخر العصر (الماضي) في ليبيريا، حيث وصلت امرأة أولى إلى الرئاسة في القارة السمراء.
أشك في أن العالم سوف ينام تلك الليلة: أكبر وأخطر مفتاح نووي، إما في يد سيدة متهمة بالاهمال وهي في موقع المسؤولية، وإما في يد متوتر زعّاق من برنامجه أن يبني جداراً بين أميركا والمكسيك، وأن يجعل دولة بانشو فيا تدفع تكاليفه. إعقل يا دونالد. وتأدب، إذا استطعت.

 

السابق
تصادم بين قطارين في باكستان يودي بحياة أربعة وإصابة مئة آخرين بجروح
التالي
اتفاق هدنة بشروط روسيا ولمصلحة الأسد وإيران