هاني فحص مثقف ثائر رسخ علامات الشيعة العرب

العلامة الشيعي اختار منذ البداية ألا يكون مجرد رجل دين يفتي ويحلّل ويحرّم، وتجاوز هذا اللباس إلى صورة المثقف وبنيته العميقة.

جاء إلى القاهرة في خريف العام 2012، متلفعاً عباءته السوداء، متحمساً حماس الشباب في الساحات، لفعل أي شيء يظهر صورة الحرية الناصعة التي طالب بها السوريون، متنقلاً من طاولة إلى طاولة، ومن حوار إلى آخر، دفع العلامة الشيعي هاني فحص بكل معارفه من أجل أن يحقق جزءاً من أهدافه الكثيرة، وما كانت أهدافه قبل أن تخفي وجهه الغيبوبة ثم الموت، بأقل من إصلاح كبير في البينة الدينية والفكرية والمجتمعية في عموم المشرق والعالمين العربي والإسلامي.

“جئتُ لأصحّح خطأ طائفتي الشيعية، التي وقف كثيرون منها في وجه الثورة السورية في لبنان وإيران والعراق، لستُ مصحّحاً، ولكني أداة إصلاح” هكذا كان يفتتح حواراته مع الجميع، قضى الوقت في جهد ثنائي مع الأب باولو ليحرّض السوريين على الفعل الخلاق، والابتكار في الفكر كما في الإعلام والأدب.

الراديو وهاني فحص

عاش هاني فحص في زمنه الأول في بيئة بسيطة، وكان ما يربطها بالعالم كما يقول، جهاز الراديو، الذي نقل إليه كل المعارف والعلوم والمواقف السياسية مع الأخبار والأغاني، ومن خلاله عرف هاني فحص أنه عليه أن يقرأ لنجيب محفوظ وعبدالرحمن الشرقاوي وغيره، كان نافذته التي تنفّس منها هواء العالم من وسط الفقر والعزلة.

كان هاني فحص علامة من علامات لبنان الفارقة، عارفا بمنعطفاته ومنخرطا في مساراته، عاش يوميات عمره بتفاصيلها، منذ رأى النور في العام 1946 في بلدة جبشيت في النبطية، ودرس في مدارسها الحرّة (غير النظامية) حين كانت تعزّ على الجميع إمكانية تحصيل العلم، ومن مدرسة الموحدة السورية حصل على شهادته الثانوية التي خولته السفر إلى النجف في العراق ليتابع دراساته في الحوزة الدينية فيها.

المشهد الذي عاشه فحص في جبشيت أشبه بالروايات الغارقة في رومانسيتها، فهناك جلسات الشباب والصبايا في “حلقة الدخان” حيث يقوم الفلاحون بجمع ورق التبغ وترتيبه، “الصبايا بيغنو وبيسمعو بعضهم وبيحنّو لأهلهم وحبايبهم وأحبابهم وبتشك أنت وإياهم الدخان وبتصفط أنت وياهم وبتروح على المدرسة معهم، حياة مفتوحة وفي ستر ما فيش حجاب”، وبسبب دفاعه عن مزارعي التبغ في جبشيت تم اعتقال هاني فحص، بعد أن شارك في احتجاجاتهم.

النجف عاصمة الشيعة العرب

اختار هاني فحص منذ البداية ألا يكون مجرد رجل دين يفتي ويحلّل ويحرّم، وتجاوز هذا اللباس مع تمسّكه به، إلى صورة المثقف وبنيته العميقة، التي عمل فحص على تأسيسها جيداً بالإطلاع الواسع على التراث العربي والإسلامي والعالمي، فاتجه في بحثه ودراساته الجامعية في النجف، إلى لغة العرب والعلوم الإسلامية معاً، وفي النجف أصبح فحص أصغر أستاذٍ محاضر في كلية الفقه ولم يتجاوز السابعة عشرة من عمره، فنمت شخصيته بسرعة، وسمح مناخ النجف، المفقود اليوم، بالاطلاع على ما كتبه ديستويفسكي وكافكا وسارتر ونيرودا وروجيه غارودي، فعلّق على جدار غرفته صورة تشي غيفارا والمطران كبوشي مطران القدس، ولكن علماء النجف طلبوا منه أن ينزل صورة غيفارا وسألوه “لماذا تحبّ غيفارا؟” فأجابهم “حين قرأت نهج البلاغة أحببت غيفارا” وكان قد ذكر في كتابه “ماضٍ لم يمضِ” الكثير من قصص النجف التي عايشها بفرح طفولي، وبنبرة التهكم التي صبغت شخصيته سرد في إحدى القصص أن طالباً من طلاب الحوزة في النجف “كتب إلى والده في لبنان يقول له (إن القمح في العراق يزرع موسمين)، فلم يفهم الوالد مراد ولده وحمد الله على النعمة، فعاد الولد وكتب إليه قائلا (إن النعجة في العراق تلد مرتين في السنة) فرد الوالد قائلا (تبارك الله أحسن الخالقين)، فضاق صدر الولد وكتب إلى أبيه قائلا (زوجونا بسرعة ولو …)، فزوجوه”، وكانت لهاني فحص آراؤه الفريدة في الجسد والحجاب، فهو لم يعارض حجاب المرأة، ولكنه لم يتشدّد فيه، وكان يقول إنه يدعو للحجاب، بينما الحجاب من وجهة نظره هو “مجرد شكل لحفظ المضمون، فإذا تم تخريب المضمون لا يعوّض الشكل عنه، وإذا سلم المضمون يمكن أن يعوّض عن الشكل، فالمؤمنة غير المحجبة تلتزم بمستوى من الحشمة، لأن الجسد عظيم، ومنبع رؤيا ولهذا ينبغي حفظه”.

وقرر القائمون على الحوزة إصدار مجلة فكرية، فكان هاني فحص هو المدير المسؤول لها، والمحرر الأول، وكانت مجلة كلية الفقه التي حملت اسم “النجف” أولى المنابر التي نشر فيها فحص إنتاجه الأدبي، سواء كان بحثياً أو قصصياً، حتى كانت النكسة في العام 1967، لتستمر سنة أخرى بعدها وتتوقف.

يرى هاني فحص أن الحوزة كانت تقوم بدور تنويري كبير، بقسط الحرية الوافر الذي تعطيه لمن ينضم إليها، وهو ما جعله حرّاً منذ نشأته الأولى، مختلفاً ومغامراً كعلماء الماضي وليس كرجال الدين في هذا الزمن، وحين تكاملت هويته الثقافية، رأى أن دوره قد بدأ في تنوير لبنان وشيعته، فقرّر العودة في العام 1972، ولكنه اختار بلدته الصغيرة جبشيت مستقراً له قبل أن ينضم إلى كمال جنبلاط في نضاله من أجل ديمقراطية لبنان وهويته العربية.

مفرد في لبنان السبعينات

رأى هاني فحص بيروت السبعينات غير تلك التي غادرها في الستينات، وسحرته شخصية ياسر عرفات، وكان قد تواصل مع حركة فتح وهو ما يزال في النجف من خلال المبعوثين الذين كانت الحركة ترسلهم للتواصل مع مراكز التأثير، فعمل فحص في المقاومة الوطنية الفلسطينية فعلياً، وكان يتبرّع براتبه للثورة الفلسطينية، وحين عاد إلى لبنان وأصبح شخصية عامة، بدأ يبحث عن مشروع وطني يحمل كما يقول: “القومي والإسلامي و الوطني”، فوجد في حركة فتح تلك المطالب وبالأخص التعددية التي بقي حتى آخر لحظة في حياته يبحث عنها.

العمل العسكري

بعد العام 1973، انطلق هاني فحص مع مجموعة من الشباب للتدرّب على العمليات القتالية ضد إسرائيل، فتوزّعوا على البرج الشمالي والنبطية، وتأثر كثيراً بشخصية دلال المغربي التي دفعت حياتها ثمناً لإيمانها بالمقاومة، وعمل تحت قيادة أبو جهاد (خليل الوزير)، وكذلك هاني الحسن، وفي مكتب ياسر عرفات في الفاكهاني قدّم هاني فحص لقائد الثورة الفلسطينية مشروع رؤيته التي كتب في مطلعها “وإنّ هذا سبيلي”، فأطلق عرفات على المجموعة اسم “جماعة سبيلي”.

لتنشأ بين الرجلين صلة وثيقة، كان من نتائجها ترتيب هاني فحص للعلاقة ما بين عرفات والمعارضة الإيرانية التي كانت تعمل ضد الشاه، والتي وصلت إلى الحكم بقيادة الخميني، ليحمل هاني فحص رسالة موقّعة من ياسر عرفات إلى الخميني بتاريخ يناير في العام 1979 جاء فيها: “لقد رأيت أن أكتب إليك هذه الرسالة وأنت تعرف مبلغ اعتزازنا بكم وبثورتكم المباركة ضد الظلم والطغيان وضد الصهيونية والتسلط الإمبريالي على منطقتنا والذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية، وقد اخترت الأخ الكريم هاني فحص، ليحمل إليك هذه الرسالة وليطلعكم على بعض الأمور الهامة وليطلع على آرائكم بشأنها خاصة وأنها مهمة في هذا الوقت الذي تحاول هذه القوى الغاشمة أن تبلغ أهدافها ضدنا جميعا ولتركع أمتنا الإسلامية تحت أقدامها وأطماعها، أرجو في هذه الرسالة أن أنقل لسماحتكم محبة أبنائكم المجاهدين الصادقين الصابرين ودعاءهم وآمالهم وأمانيهم لكم ولجهادهم، إنه سميع الدعاء. وتقبل أطيب وأسمى تحياتي ومودتي القلبية الحارة”، فحملها هاني فحص وذهب إلى بغداد ثم إلى النجف حيث كان يقيم الخميني، واجتمع معه لساعتين، ممكّناً العلاقة بين الثورة الفلسطينية والثورة الإيرانية في زمنها الأول.

شيعة العرب وشيعة إيران

يعتقد هاني فحص أن النجف تغيّرت، وأنها أصبحت تختزل في السيستاني اليوم، وأن الولاء للخارج هو طبيعة في المنطقة العربية، ويضرب مثلاً على ذلك بولاء الشيعة اللبنانيين قبل ظهور الخميني، ليؤكد أنه كان ولاء لجمال عبدالناصر، ولم يكن هذا سوى انخراط في مشروع خارجي، خارج الدولة الوطنية، سببه بحث الأقليات عن خصوصيتها وعن قوى تدعمها.

كان هاني فحص أوّل من قلّد الخميني في لبنان كمرجع شيعي أعلى، ولكنه أبقى على مسافة أمان فكرية، يستطيع من خلالها التفكير بحرية، والتصرّف وفقاً للتطورات، وهو لا يخفي غضبه الدائم من محاولة إيران ابتلاع الشيعة العرب، ويروي أنه حين كان في طهران، زاره وفدٌ من شيعة دمشق السوريين، وطلبوا منه تأمين مقابلة مع خامنئي ليقولوا له: “اتركنا بحالنا”، ويأسف فحص لكون الناس لم تصمد أمام إغراء المال وشعارات المقاومة.

هاني فحص وسوريا

رفض العلامة هاني فحص تدخل حزب الله في سوريا، وكان قد رفع صوته بمعارضة نظام بشار الأسد قبل إعلان تدخل نصرالله في الأراضي السورية، فكان أن أصدر بياناً مع السيّد محمد حسن الأمين، يدعو فيه شيعة لبنان إلى دعم الثورة الشعبية في سوريا، جاء فيه “ندعو شيعة لبنان إلى دعم الثورات العربية، لا سيما الثورة السورية التي بإذن الله سوف تنتصر، ومن بين العوامل التي تضمن لنا مستقبلاً جيداً في لبنان هو أن تكون سوريا مستقرة، حرة، تحكمها دولة ديمقراطية، عصرية وتقبل التعددية”، فبدأ حزب الله وإعلامه بشنّ حملة عنيفة ضد هاني فحص لتشويه صورته، وباتوا يسمّونه “الشيعي الوهابي” و”عميل أميركا”.

إقرأ ايضًا:  هاني فحص… ما زال صوته يعزف في أذنيّ

فردّ هاني فحص بالقول إن نظام الأسد في سوريا يسعى لإشعال فتنة طائفية، وأخذ يناشد الثوار السوريين لمنع تحقيق “أحلام النظام” كما قال، وواصل عمله على عقد لقاءات في العواصم لتأييد مطالب الشعب السوري، وفي الوقت ذاته حفظ الشيعة اللبنانيين والعرب، من الانجراف خلف حزب الله وإيران، وكان آخر ما فعله قبل دخوله في غيبوبة الموت، رسالته إلى حزب الله، التي أعلنها كوصية، وجاء فيها: “كان بإمكانكم، أن تشاركوا أصالة عن نفسكم ونيابة مفهومة عن إيران، في حكم سورية وقرارها، من دون شبهة احتلال، قد تدفعون ثمنها مع جهات عدة، قد يكون أولها النظام السوري، الذي تمر حاله بقناتكم ولا تقف فيها أو عليها، وكان يمكن أن تكون علاقتكم وشراكتكم مع النظام السوري، بعدما تسهمون في إنقاذه وإنقاذ الشعب منه، بالتسوية الذكية، لأن قلب سورية هو قلب العرب النابض، أو قلب العروبة النابض، العروبة التي حلا لبعضكم، بني صدر أول مرة، ثم أحد كبار قادة الحرس الثوري لاحقاً (ربيع عام 2014) وبعدما بدا أنه انتصار للنظام السوري بالبراميل وداعش ومساعدتكم الكبيرة، على الشعب السوري وإجراء تمثيلية الانتخابات الرئاسية، حلا لبعضكم أن يضع العروبة والصهيونية في مصاف واحد، لقد كان بإمكان قوتكم مدعومة أو داعمة لأصلها وفصلها الإيراني، أن تستخدموا نفوذكم وأفضالكم على النظام السوري، في تدبير تسوية تاريخية، ترغبونه بها وتكافئونه عليها، من دون وصاية، وتحفظون بها علاقتكم النقية مع الشعب السوري”.

يرى هاني فحص أن سوريا “ذاهبة إلى الاستقلال الكامل، ولكن مكلف جداً وليس موعده بقريب، حتى الإيرانيون يتوقّعون في قرارة أنفسهم أن استقلال سوريا من دون الأسد ونظامه سوف يأتي، لكن الباطنية الإيرانية تعمل على أطروحة أخرى… الله يسترنا منهم”.

الحرب اللبنانية

لم تقنع هاني فحص مبررات الحرب اللبنانية، ولم يستثن أحداً من انتقاده سواء فتح التي انتمى إليها، أو الكتائب اللبنانية أو الحركة الوطنية، واعتبرهم شركاء في جريمة الحرب، التي وقف ضدّها، وكان دوره فيها هو نطاق العمل المجتمعي، الذي يسميه “لجان إطفاء الاحتقان الطائفي”، والتي طاف بها مع شركائه على المناطق اللبنانية ليخاطب الناس بالكلمات بعد أن ارتفع صوت الرصاص وحده، ووقف ضد حافظ الأسد ودخول الجيش السوري إلى لبنان والهيمنة عليه، ولكنه فضّل المغادرة على البقاء في مناخ الفوضى، فترحّل في العام 1982 إلى إيران وبقي فيها حتى العام 1985، حيث عمل مستشارا في مكتب إعلام الحوزة في قم، ومشرفا على مجلة الفجر، ثم عاد من إيران بعد ثلاثة أعوام، ليتفرغ للحوار ما بين الحضارات والمكونات الاجتماعية والدينية والعمل الفكري والثقافي، وأسس مع سمير فرنجية المؤتمر الدائم للحوار اللبناني، وشارك في تأسيس الفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي.

صنع هاني فحص حياته بيديه، يدين من تبغ ومعرفة وإيمان وحرية، وصنع رحيله أيضاً تاركاً خلفه حياته كرسالة واضحة ناصعة للشيعة العرب والسنة العرب على حد سواء.

(العرب)

السابق
بالفيديو..نجل مرجع شيعي إيراني: سليماني زجّ طهران في المستنقع السوري وقام بصناعة داعش
التالي
ريم كبار: غادرت باكراً