نفايات لبنان.. الحكومة تحاصر المواطنين

نفايات لبنان

كتبت صحيفة “العربي الجديد” تقول: تعود أزمة النفايات في لبنان إلى الواجهة، فتتصدّر المشهد على الطرقات العامة وكذلك الأخبار المحلية، مع تكدّسها من جديد في شوارع محافظتَي بيروت وجبل لبنان وأحيائهما. وتعرض “العربي الجديد” لآخر مستجدات الأزمة.
تخيّر الدولة اللبنانية مواطنيها اليوم بين حلّين اثنَين، إمّا حرق النفايات المتكدسة في محافظتَي بيروت وجبل لبنان، وإمّا إقامة مطمرَين ضخمَين للنفايات في قلب البحر (شمال بيروت) وتلويثه بصورة دائمة. ويقول متابعون في هذا الإطار، إنّ الخطة الحكومية لمعالجة أزمة النفايات تحوّلت إلى مشروع استثماري شاطئي، بدلاً من إقرار لحلول عملية لمعالجة النفايات في المحافظتَين المعنيتَين بطريقة مستدامة.
على مدى السنوات الماضية، لم تكتفِ الحكومات المتعاقبة بخصخصة أجزاء من الشاطئ اللبناني واقتطاعها لمشاريع سياحية خاصة، بل لوّثته بانبعاثات محطات توليد الكهرباء وبقنوات الصرف الصحي. واليوم يجتمع عاملا التلوّث والوعود الاستثمارية في الخطة الحكومية الأخيرة التي أقرّها مجلس الوزراء للتعامل مع أزمة النفايات الصلبة التي ضربت محافظتي بيروت وجبل لبنان قبل أكثر من عام؛ والتي تتجدد حالياً مع تعطيل حزب الكتائب وأهالي منطقة برج حمود (شمال بيروت) إنشاء مطمر بحري للنفايات قبالة شاطئ المنطقة. ويأتي ذلك كجزء من مشروع أوسع يجمع إلى عاملَي الاستثمار والتلويث، إدارة مناطقية وطائفية لأزمة النفايات تقوم على اهتمام كل منطقة ذات أغلبية طائفية معينة بنفاياتها.
ويُخيّر وزير الزراعة أكرم شهيب المكلّف من قبل الحكومة بمتابعة تنفيذ الخطة، اللبنانيين ما بين النفايات التي عادت للتراكم في أكثر من مائة بلدية ضمن بيروت وفي محيطها، وبين هذه الخطة، في وقت يتواصل اعتراض الأهالي وحزب الكتائب، على الرغم من الضغوطات السياسية التي يتعرّض لها الحزب لتمرير تنفيذ الخطة. ويُحارب الحزب تحت ضغط أطنان النفايات التي عادت للتكدس في الشوارع والأحياء، في تكرار للمشاهد التي دفعت الحراك الشعبي والمدني إلى الاعتراض قبل عام.

ومع مضيّ الأيام وتكدّس النفايات، تتفاقم المشكلة في الشارع. وهو ما دفع وزير الصحة وائل أبو فاعور إلى الإيعاز لأطباء الأقضية بـ”التنسيق مع كل البلديات لإخلاء الشوارع من النفايات المتراكمة، إمّا من خلال طمرها أو تغليفها في أكياس محكمة الإغلاق، بحسب القرار الصادر سابقاً عن الوزارة حول كيفية التعامل مع النفايات، وذلك لتجنّب انتشارها عشوائياً مع الأمطار المتوقّع سقوطها”. كذلك، أثارت النفايات الطبية مخاوف المواطنين مع بيانَين حول توقّف جمع النفايات الطبية، أصدرتهما جمعية “آرك آن سيال” (جمعية لبنانية لا تتوخى الربح، مهمتها المشاركة في التنمية من خلال ثلاثة أبعاد: اجتماعي وبيئي واقتصادي) وشركة “سوكلين” (شركة خاصة مكلفة جمع النفايات الصلبة ومعالجتها ونقلها في محافظتَي بيروت وجبل لبنان)، قبل أن تحسم “سوكلين” الموقف وتؤكد نقل هذه النفايات إلى أرض تابعة للبلدية في منطقة الكرنتينا في بيروت.
جبلان في عرض البحر
تقضي الخطة الحكومية لإدارة النفايات بإنشاء ثلاثة مطامر (اثنان في برج حمود) للنفايات داخل البحر، بعد ردمه وتحويل المساحة الشاطئية في المنطقة الساحلية المعروفة بـ”الكوستا برافا” (جنوب بيروت) وعلى الخط الممتد من منطقة الجديدة إلى محيط مرفأ بيروت (شمال) بطول ثلاثة كيلومترات، إلى مواقع تخزين “مؤقتة” للنفايات. ويشرح مسؤول سياسي بارز فضّل عدم الكشف عن هويته لـ”العربي الجديد”، تفاصيل الخطة الحكومية مظهراً التناقضات الجلية في الشكل الهندسي للمشروع وفي مضمونه أيضاً. ولأنّ العمل جارٍ على قدم وساق في موقع “كوستابرافا”، بعد منح رئيس “الحزب الديمقراطي اللبناني” النائب طلال أرسلان غطاءً سياسياً حجب اعتراض أهالي مجموعة من البلدات المحيطة بالموقع، يقتصر الاحتجاج حالياً على موقع برج حمود. ويمكن تقدير حجم المشروع المزمع تنفيذه من خلال جولة بالقرب من “الكوستابرافا”. هناك، تحوّلت أكوام النفايات إلى تلة علت فوق سواتر الإسمنت التي رفعها متعهّد المشروع. فاختفى البحر خلف التلة، وخلا الكورنيش غير المجهز أساساً لاستقبال المواطنين، من مرتاديه الذين يقصدونه كمهرب مجاني من ضغوطات الحياة. أمّا الرائحة فلا تطاق.
يرسم المسؤول السياسي الشاب خريطة المطمر في برج حمود في دقائق، فيقول إنّ دائرتين كبيرتين تمتدان على مسافة ثلاثة كيلومترات بين الجديدة والمرفأ، تمثلان الحفرتَين اللتَين “سوف تدفع النفايات إليهما من الشاطئ”. تبلغ مساحة كلّ واحدة منهما 577 ألف كيلومتر مربّع، “سوف تُرمى النفايات فيهما، على أن تضغط دورياً لاستيعاب كميات إضافية خلال أربع سنوات (الفترة الانتقالية التي حددتها الحكومة لاستخدام هذه المطامر قبل إقرار حل دائم لمعالجة النفايات)”.

اقرأ أيضاً : نفايات لبنان تنتج الأفاعي!
بحسب خرائط المشروع التي اطلع عليها السياسي الشاب، “من المتوقّع أن يبلغ ارتفاع تلّتَي النفايات اللتَين سوف تنشأان ما بين 13.5 و14.5 متراً، مع أنّ كاسر الموج المفترض بناؤه لمنع النفايات من الانتشار في البحر، لن يتجاوز ارتفاعه تسعة أمتار”. وعلى الرغم من الوعود القاطعة التي قدّمتها الحكومة للبلديات المجاورة بإمكانية استثمار هذه الأراضي لصالحها (البلديات) بعد انقضاء السنوات الأربع، إلا أنّ السياسي اللبناني يحذّر من “خطر انبعاث غاز الميثان الذي يتراكم في النفايات، والذي يتوقّع خبراء أن يحتاج إلى ست سنوات إضافية ليُصرّف بالكامل. كذلك سوف تشكل الرائحة عامل طرد للناس من كلّ المنطقة المحيطة بهذه الكارثة”.

إلى ذلك، تتزايد المخاوف من جرّاء اختيار الحكومة متعهّد “لم يسبق له أن عمل في إنشاء المطامر ولا في إدارة النفايات”، بحسب السياسي الشاب نفسه. ولا تنتهي استثنائية الخطة عند شكلها بل تتجاوزها إلى طريقة إقرارها داخل مجلس الوزراء والمجالس التابعة له (مجلس الإنماء والإعمار) من دون الرجوع إلى الجهات الرقابية الرسمية. وهو ما درجت عليه الحكومات المتعاقبة منذ انتهاء الحرب الأهلية في البلاد في عام 1990. ويستغرب محدّثنا أن يكون “المهندس المكلّف إعداد دراسة الأثر البيئي للمشروع، هو أحد الفنيين المعتمدين في المشروف نفسه”. وإلى “الجنون الهندسي” للمشروع، يطرح مراقبون تساؤلات جدية عن التزام الشركات الخاصة المكلّفة جمع النفايات وفرزها قبل نقلها للطمر، بفرز هذه النفايات، “علماً أن معامل الفرز القائمة في المحافظتَين لا تكفي لفرز أكثر من ثلث كمية النفايات التي ينتجها سكان بيروت وجبل لبنان يومياً (نحو ثلاثة آلاف طن، تُفرز منها نسبة بسيطة فقط)”.
متضررون بالجملة
ويضع السياسي الشاب نقطة لكلّ متضرر من إنشاء المطمرَين: “نقطة للأهالي وأخرى للصيادين وأصحاب الأراضي القريبة الشاطئ، وثالثة لشركات الغاز والنفط التي تقيم منشآتها في المنطقة”. ويبدأ السؤال عن التعويضات التي سوف تضطر الحكومة إلى دفعها للمتضررين، “وهي كلفة لا تشملها ميزانية المشروع البالغة 110 ملايين دولار أميركي”. من جهته، يشير رئيس نقابة العاملين والموزّعين في قطاع الغاز في لبنان، فريد زينون، إلى أنّ استمرار الأعمال في مطمر برج حمود سوف يشكّل “أكبر ضرر على العاملين في قطاع الغاز على السنسول البحري لمنطقة برج حمود – الدورة (شمال بيروت)، خصوصاً أنّ ثمة خمس شركات لتعبئة وتوزيع للغاز، فيها أكثر من ألف عامل وموزّع وإداري أصبحوا يعملون في ظروف صعبة من جرّاء الروائح الكريهة المنبعثة من مكبّ برج حمود، علماً أنّ هذه الشركات تغطي حاجة كل منطقة جبل لبنان وبيروت إلى الغاز المنزلي”. وقد حذّر زينون في بيان من أنّه في حال لم تتوقف الأعمال فوراً ويلغى مشروع مطمر برج حمود، فإنّ ذلك سوف يقودنا إلى “إعلان الإضراب العام في هذه الشركات. وسوف ندعو إلى التوقف عن تسليم الغاز إلى حين إعلان إلغاء مشروع المطمر”.
البرلمان يرقّع الخطة

اقرأ أيضاً : كيف يعالج مركز صيدا النفايات وينتج الكهرباء

أمام تعثّر تنفيذ الخطة، حاول رئيس لجنة المال النيابية، النائب إبراهيم كنعان، المبادرة لتفعيل الخطة الحكومية من خلال اجتماعه مع رؤساء البلديات والأطراف السياسية المعنية بالتفاوض على المواقع المقترحة لطمر النفايات فيها، لإعلان “خطة من أربع خطوات لرفع النفايات من الشارع”. وقد حدّد النائب كنعان الخطوات بـ “تحسين شروط الرقابة حول أعمال المعالجة (فرز وتسبيخ)، ورفع مستوى إمكانات المعامل (العمروسية والكرنتينا والكورال) لفرز أكبر كمية ممكنة من النفايات قبل طمرها، ووضع دراسة أثر بيئي للمشروع، ثم المباشرة برفع النفايات من الشوارع نحو المطمر الواقعي القائم وهو مطمر برج حمود”.

وقدم النائب من “تكتل التغيير والإصلاح” سقفاً زمنياً قصيراً لتنفيذ الخطوات الثلاث الأولى وهو 24 ساعة فقط، مع الإعلان عن تشكيل لجنة يرأسها زميله في التكتل النائب غسان مخيبر لمراقبة التنفيذ. وعلى الرغم من مرور أيام عدّة على الاجتماع، إلا أنّ أيّ جديد لم يظهر بشأن النقاط الأربع. واكتفى كنعان بموقف سياسي أعلنه في احتفال حزبي، وصف فيه واقع أزمة النفايات بـ”أكبر إدانة للسياسيين. بعد 26 عاماً وملياري دولار صُرفت على النفايات وبعد كل الصفقات المشبوهة والحديث عن بنية تحتية في لبنان، نصل الى الفصل الذي نعيشه، ويريدون تخييرنا ما بين القبول بالفشل والصفقة والسمسرة وتمويل المزرعة بالشكل الذي يريدونه، أو أن تبقى النفايات وأمراضها في الشارع”. تخلل الأزمة المُستجدة دعوة وزير الزراعة أكرم شهيب وسائل الإعلام إلى تغطية مؤتمر صحافي، ظنّه الإعلاميون أنّه سوف يخصص للحديث عن أزمة النفايات، لكنّه تحدث فيه عن “دعم زيت الزيتون اللبناني”.

يُذكر أنّ شهيب احتدّ لدى سؤاله عن الخطة الحكومية وكيفية إقرارها قبل صدرو نتائج دراسة الأثر البيئي، وسأل غاضباً: “أين كنتم عندنا طمرنا 900 ألف طن من النفايات في مطمر الناعمة من دون دراسة أثر بيئي؟ هل تريدون مواطنين بسمنة ومواطنين بزيت؟”. ويبدو أنّ الوزير يتعامل مع الملف بشيء من “الطائفية”، إذ إنّ أهالي الناعمة بمعظمهم مسلمون بينما أهالي المناطق المعترضة حالياً مسيحيون بمعظمهم، وكأنّ المطلوب هو أن يشمل بلاء النفايات وأمراضها الجميع في لبنان.
في سياق متصل، لجأت بلديات عدّة وما زالت إلى خيارات لامركزية في إدارة النفايات الصلبة. فطلبت بلدية بيروت استثناءها من الخطة الحكومية، فيما تحوم شبهات فساد حول صفقة شراء محرقة نفايات مستعملة لمعالجة نفايات العاصمة. أمّا بلديات أخرى في بيت مري وبكفيا في جبل لبنان، فقد راحت تعالج النفايات في معامل صغيرة بعد اعتماد الفرز من المصدر. تجدر الإشارة إلى أنّ البلديات تعاني عموماً من المركزية الإدارية التي تحرمها من مواردها المالية، ومن استقلالية قراراتها الخاصة بالشؤون المحلية.

السابق
التحكم المروري: تجمع لمعتصمين عند مداخل المعاينة الميكانيكية
التالي
قوى الامن: ضبط 1106 مخالفات سرعة زائدة امس