سقطت المرأة أرضاً غارقة بدمائها. لم تعلم تلك العجوز، التي لم تحظَ باهتمام الرأي العام، أنها يمكن أن تصبح خبراً عاجلاً تتناقله وسائل الإعلام، أو أن تصير جثة يُتاح لكل من كان قريباً من مكان التفجير أن يصورها بهاتفه الذكي. رغم ذلك لم يكن خبرها “ذا قيمة”. فهي “الشهيدة المجهولة”. لا أحد ممن صادفها يعلم إذا كان لها أهل يسألون عنها، ولا عن المأوى المسائي الذي كانت تبيت فيه لياليها. هي مجرد متسولة سورية مرت في هذه الأرض سنون عديدة. يذرف طبيب نزل من عيادته المجاورة ليتفقد مكان التفجير الدمع عليها. يقول بصوت متهدج يخرج من حنجرة مختنقة: “شو ذنبك”.
المشهد في مستشفى شتورة، الذي نقلت إليه جثة “الشهيدة المجهولة والمهملَة”، لا يوحي بأن ضحية التفجير وصلت إلى هذا المكان قبل ساعتين. لا أهل ولا أصحاب، لا كاميرات ولا وسائل إعلام، ولا من يسألون. جثة باردة أُودعت براد المستشفى في انتظار من يستلمها. جثة مجهولة لم تحمل ملابسها المضرجة بالدماء أي أوراق ثبوتية. ولا حتى قصاصة ورقية عليها اسم أو كنية أو جنسية. في جيبها كيس صغير من قماش حوى غلتها: 145 ألف ليرة ورقية و7500 ليرة لبنانية من الفئات المعدنية. مبلغ وضع في ظرف أبيض أُقفل وكُتب عليه: أموال الشهيدة. إنه في انتظار من يستلمه مع جثتها.
… ولم يطل الانتظار أكثر من ٣ ساعات انتهت بحضور من عرّف عن نفسه أنه ولدها. وصل إلى المستشفى ليكشف ما كان مجهولاً للناس. والدته الشهيدة المهملَة تدعى تركية بيضون، وتسكن في منطقة دير زانون في البقاع الأوسط، وهي سورية الجنسية في 86 من العمر.
إنجلت الحقيقة التي لم تكن أقل مرارة من استشهاد صاحبتها. حقيقة دفعت إحدى العاملات في المستشفى إلى الهمس في أذن زميلتها: ليتها بقيت مجهولة، ولم نعلم أن لديها ولداً ترك أمه طيلة هذه السنوات تمدّ يدها لفاعلي الخير!