سرت.. لعنة مدينة

من أنتم؟
سؤال استفز الليبيين الأحرار، وأجاب عنه ثوار السابع عشر من فبراير/شباط في يوم مشهود من أيام ليبيا، عندما قبض فيه الثوار على معمر القذافي في سرت، وأجابوه جواباً سيبقى عالقاً لفترة طويلة في ذاكرة كل طاغية وذاكرة الليبيين والعالم أجمع، قبل أن يلقى حتفه من رصاصة أطلقها “عشوائي”، واحتلت سرت حينها واجهة كبريات الصحف وعناوين نشرات الأخبار في وسائل الإعلام العالمية، المدينة التي أبصر فيها العقيد النور، وأغمضت فيها عينه عن النور، دفعت فيما بعد أثمان ذلك السؤال.

بعد سنوات قليلة تعود سرت مرة ثانية إلى واجهة الاهتمام المحلي والدولي، ولكن عودتها هذه المرة تأتي مع قرب إعلان تحريرها بشكل كامل من سيطرة تنظيم البغدادي الإرهابي الذي أعلن ضم المدينة لدولة الخلافة المزعومة في وقت سابق، ذلك مع ظهور مجموعات بايعت التنظيم في مدينة لم يعرف عنها التشدد أو التطرف الديني والانتماء إلى مجموعات راديكالية من قبل، كان ذلك مستغرباً في مدينة لم تعرف يوماً سوى خطابات القذافي وصوره وراياته الخضراء التي انقلبت إلى رايات سوداء، وأضحت خطابات البغدادي وولاته تصدح في المآذن والجوامع كما كانت تعج الإذاعات وأبواق اللجان الثورية سابقاً بأفكار القذافي ومعاني كتيبه الأخضر.

فكيف تشكل فيها هذا التنظيم؟ ومن أين أتى؟ ولما اختار سرت الليبية نقطة تمركز له دون غيرها؟

مدينة محررة وليست ثائرة

إن اختيار التنظيم لمدينة سرت كنقطة تمركز له كان اختياراً مدروساً، كون المدينة كان ولاؤها في غالبيتها المطلقة للنظام السابق، وعلينا أن لا ننسى مؤشراً مهماً، إذ إن سرت مدينة محررة وليست ثائرة، وكان عدد من التحق بالثورة ضد القذافي من أبنائها قليلاً مقارنة بغيرها، وبالتالي هناك نقمة وحقد من شريحة كبيرة من أهلها على التغيير الذي حدث في السلطة، والذي نزع منها النفوذ التي كانت تتمتع به إبان حكم القذافي، وما تبع ذلك أيضاً من ممارسات أو إهمال للمدينة من قِبل حكومات ما بعد الثورة، ترك كل ذلك بالغ الأثر في البنية النفسية والاجتماعية للمدينة (برزت مصطلحات تصف مؤيدي القذافي بالأزلام أو الطحالب)،كان له دور مهم في نكوص سرت عن الالتحاق بليبيا الجديدة، ولاحقاً بروز بيئة حاضنة للتنظيم أو غير معادية له.

وقد يكون من المفيد هنا تشبيه ما حصل بسرت بما حصل بتكريت (مع الفارق أن بالعراق كانت هناك قوة احتلال، وليس ثورة شعبية)، مسقط رأس صدام حسين؛ إذ انطلق التنظيم في العراق.

إذاً تقاطعت مصالح هذه المجموعات المتضررة من التغيير الذي حدث إبان الثورة وما بعدها مع مصالح التنظيم الذي كان اختياره لسرت ناجماً عن فهم دقيق لحالة المدينة النفسية والاجتماعية الذي ساهم في حدوثها، كما قلنا، ممارسات أصحاب السلطة والقوة الجدد، وأيضاً إدراك التنظيم لشعور الضعف والنقص الناجم عن فقدان هذه المجموعات لنفوذها السابق، فطرح التنظيم نفسه كمخلص وحيد (يراه البعض اضطرارياً وليس اختيارياً) أو طُعم مغرٍ لعودة السلطة والنفوذ لهذه المجموعات المتضررة التي قد تعيد لسرت هيبتها ونفوذها السابقين.

العامل القبلي

وكان الدافع القبلي المستشري والمسيطر على سلوكيات المنطقة أيضاً أحد أهم دوافع هذه المجموعات لاحتضان التنظيم، الذي يغذيه الحقد على مصراتة خاصة (جل إن لم يكن كل العمليات العسكرية التي قامت ضد التنظيم في سرت انطلقت من مصراتة وكانت كتائب مصراتة هي العمود الفقري لها)، وعلى قبيلة الفرجان التي تنافس القذاذفة في سرت، هذا إذا ما ربطناه بدافع آخر وهو معرفة هؤلاء بأن كتائب الثوار لن تقبلهم ضمن صفوفها كونهم (أزلام).

وبالتالي لن يكون لهم وجود مؤثر في الساحة، وهذا استثار الحقد على الثوار وعلى مصراتة بالذات، مما جعلهم يختارون الانضواء تحت راية أي جماعة أو تنظيم يفتح لهم الباب ليعودوا إلى المشهد، ولو كان ذلك بالصفوف الخلفية، وقد وفر التنظيم هذا الأمر، فاستفادوا منه (عبر باب الاستتابة)، ومع تقاطع المصالح وبروز هذه الدوافع، عمل التنظيم على استغلال الجانب القبلي، وبذلك دعم صفوفه بعناصر ليبية كثيرة، وإن كانت لا تؤمن بالفكر العقائدي.

العامل الجغرافي

أعتقد أن موقع سرت الجغرافي كان أيضاً من أهم عوامل اختيار التنظيم لها؛ إذ إنها تقع في وسط ليبيا، ولها واجهة بحرية كبيرة على المتوسط (شكل هذا قلقاً لدى الأوروبيين مخافة انتقال عناصر أو شن هجمات إرهابية عليهم عبر البحر)، بالإضافة إلى أنها مفتوحة من الجنوب على صحراء واسعة شاسعة يصعب ضبطها، وهذا الموقع يوفر للتنظيم طرق التواصل والدعم بالسلاح والمال والعتاد والرجال من خارج الحدود، وبالفعل استغل التنظيم حالة الفراغ في الجنوب، والانقسام فيما بعد في ليبيا، واستطاع فتح خط إمدادٍ بشري ولوجيستي ومالي مستمر ومستقر، دعم به قوته وهيمنته، وأخذت تتدفق عليه العناصر التي تعتنق نفس الأفكار من أصحاب البشرة السوداء الذين يعتقد أن جلهم أتوا من إقليم أزواد.

مراحل تشكُّل هذا التنظيم

مما لا شك فيه أن مجموعة كبيرة من تنظيم أنصار الشريعة شكلت نواة هذا التنظيم، إلى جانب عناصر متشددة أتت من بنغازي ودرنة، إضافة إلى من أتوا من خارج ليبيا، ولكن جميع المعلومات تفيد بأن كتيبة ثوار سرت كانت أساس تشكيل هذا التنظيم بالمدينة، هذه الكتيبة التي تشكلت إبان الثورة لمحاربة نظام القذافي، وكانت من بين الكتائب التي دخلت سرت وتمركزت فيها، وكان من عناصرها أشخاص قاتلوا سابقاً في أفغانستان والعراق وعادوا إلى ليبيا إبان الثورة.

وقد تطورت هذه الكتيبة بعد التحرير إلى ما يعرف باللجنة الأمنية بسرت (تشكلت اللجان الأمنية ضمن محاولة من الدولة لتنظيم الكتائب المسلحة ودمجها وجعلها تحت سلطة الدولة)، والتي كان فيها شخصيات بارزة من معتقلي سجن بوسليم المشهور إبان حكم القذافي، وهم من التيار المتشدد، وقد قامت مجموعة كبيرة من هذه الكتيبة بمبايعة تنظيم أنصار الشريعة، والتي بدورها بايع جزء كبير منها تنظيم الدولة في سرت, بينما التحق من لم يبايع منهم بالقتال في بنغازي إلى جانب مجلس شورى ثوار بنغازي، وآخرون غادروا للقتال في سوريا والعراق، وبالتالي انتهى تنظيم الأنصار في سرت (كان من أبرز الشخصيات التي لم تبايع الأنصار قيادي يدعى خليفة البرق).

كما يعتقد من خلال معلومات أن هناك عدداً لا بأس به من عناصر التنظيم ينتمون إلى جنسيات عربية عراقية وسودانية ويمنية ومصرية، بينما يعد حاملو الجنسية التونسية الأكثر عدداً وعنفاً في التنظيم، إضافة إلى عناصر إفريقية وأخرى محدودة من حاملي الجنسيات الأجنبية أحيطوا بسرية تامة، ولكن بعض الوثائق التي عثر عليها في العملية الأخيرة بسرت أشارت لوجود هؤلاء.

أهم مصادر تمويل التنظيم

اعتمد التنظيم منذ بداية تشكل نواته في سرت، وقبل إعلانه البيعة، على مصادر تمويل مختلفة، فعلى سبيل الذكر، عند تشكل اللجنة الأمنية بداية عام 2012 كانت الحكومة تصرف لهذه اللجان أموالاً ونثريات تقدر بنحو مائة ألف دينار شهرياً (تعادل حينها نحو 75 ألف دولار)، كما خصصت لهم حينها سيارات وآليات، إضافة طبعاً إلى السلاح والعتاد، إضافة إلى أنهم كانوا يتقاضون مرتبات من معظم قطاعات المدينة بالكامل، وذلك بالقوة والفرض على المديرين, وفيما يخص العناصر الأجنبية التي بالتنظيم فقد واجهوا معضلة، حيث من الضروري أن يكون المرتب بالرقم الوطني بالنسبة للمواطنين، وقد وجدوا مخرجاً لهذا الأمر وهو عن طريق تسلم رواتب من شركة الخدمات الخاصة بالنظافة؛ لأن هذه الشركة عمالها كلهم من الجنسيات الأجنبية كالبنغلاديش والآسيويين وغيرهم.

كما استفاد عناصر التنظيم جداً مما كان يسمى “تعويضات سرت” التي خصص لها نحو 500 مليون دينار حينها (نحو 400 مليون دولار)، وذلك لتعويض المتضررين من المعارك التي دارت في المدينة أو من الإضرار التي لحقت بأملاكهم أو التعديات التي جرت عليهم كونه كان لهم أقرباء متنفذون ومقربون من نظام القذافي؛ حيث قامت العناصر التي بايعت التنظيم فيما بعد بتشكيل ما سمي “لجنة التعويضات الأمنية” داخل المجلس المحلي بسرت، وقد ترأسها شخص متطرف منهم، وأحاط نفسه بإخوته وأقاربه، فكان يأتيه مواطن معين ليس من بين (300) شخصية التي صدر قرار باسمهم من المجلس الانتقالي بخصوص عدم صرف أموال لأشخاص تمت مصادرة أملاكهم كونهم محسوبين على النظام السابق، وأصبحت أملاكه ملكاً عاماً، فإن كان هناك مواطن في عائلته من هم من رجالات النظام القذافي، وقد تدمر منزله يأتيه تعويض من الدولة بمليون مثلاً، يتقاسمه معه هذا المتطرف؛ كي يسلمه التعويض، ومن أمثال هؤلاء عثمان ضو، شقيق منصور ضو، وأيضاً أشقاء علي الكيلاني وخميس حميد، وآخرون، وهؤلاء أبناء عمومة القذافي، وبالتالي جمع التنظيم أموالاً طائلة بهذه الطريقة.

إقرأ أيضاً: من يخلف «داعش»؟

كما اعتمد التنظيم بشكل كبير على تمويل نفسه من خلال عمليات تهريب البشر فيما يخص الهجرة غير الشرعية عبر الحدود الجنوبية الصحراوية، وشكل نقاط تمركز له على طول الطريق الصحراوي التي يسلكها المهاجرون غير الشرعيون، قادمين من الدول الإفريقية متجهين نحو الساحل الليبي على المتوسط، فقام التنظيم بتأمين هذه الطرق للمهربين، وتسهيل نقل مجموعات المهاجرين إلى وجهتهم، كما استفاد أيضاً من عمليات تهريب الوقود والبضائع والسيارات والأسلحة وغيرها في مناطقه، وعلى طول الحدود الجنوبية.

وتجدر الإشارة إلى أن “داعش” كانت تعتمد أيضاً على ابتزاز الأثرياء في سرت وغيرها عبر عمليات تهديد أو خطف أو غيرها؛ لتجني منهم أموالاً كبيرة جداً دعمت بها مواردها المالية، كما قامت عناصر التنظيم في وقت سابق بسلب مبالغ قدرت بملايين الدولارات كانت مخصصة لعدة بنوك ومؤسسات مالية في المدينة، ولم تستطع الحكومة حينها استردادها، وتثار بعض الشكوك حول وجود دعم مالي ومعنوي من قِبل مسؤولين سابقين بارزين في نظام القذافي لهذا التنظيم، وذلك من أجل تنفيذ مآرب شخصية تتعلق بالثأر والانتقام.

إقرأ أيضاً: بعض التأمُّل في أُبُوّة «داعش»

إضافة إلى تنفيذ أهداف استراتيجية سياسية تتمركز في زعزعة استقرار وأمن ليبيا بعد القذافي، وإحداث نوع من الندم على أيام النظام السابق؛ حيث الأمن والأمان، ولا تطرف أو إرهاب، وقد عبر أحد أهم رجالات القذافي وابن عمه أحمد قذاف الدم بصراحة عن ذلك قائلاً: “أنا مع دولة العراق والشام”، مضيفاً: “إعجابه بالتنظيم وتفهمه للشباب الأنقياء الذين انضموا إليه”، مبرراً ذلك بفشل حكومات ما بعد الثورة على طرح مشروع بديل لاستقطاب الشباب.

وبعد سرد هذه التفاصيل التي أحيطت بتشكل التنظيم وترعرعه في سرت، ومع قرب تحرير المدينة للمرة الثانية من براثن الطغيان والفساد، تطرح علامات استفهام مهمة حول مستقبل هذه المدينة وما ينتظرها، وعما إذا كان الليبيون سيأخذون العبرة من الأخطاء التي وقعوا بها في الأمس، وتنعم المدينة وأهلها بالسلام والأمان والازدهار، أم أن “لعنة جديدة” سوف تحل بسرت في قادم الأيام؟!

(بوست عربي)

السابق
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصل إلى المنية: الرقص يُهلك قرانا!
التالي
«درع الفرات» والسياسة التركية شمال سوريا