أفضل صحيفة في الشرق الأوسط

جهاد الزين

لو كانت لدينا في العالم العربي صحيفة أو صحف بالمستوى المهني الذي لصحيفة “هآرتس” الإسرائيليّة لكان سعْيُ الجيلِ الجديد من الصحافيين للعمل في مثيلاتها أمرا طبيعياً وملحّاً. من وجهة نظري كقارئ وصحافي، “هآرتس” هي أفضل جريدة في منطقتنا. أقول ذلك من موقعي كمجرّد قارئ متابع لعناوينها وبعض موادها. من حق القارئ أن يُصنِّف.

اقرأ أيضاً: لا مبادرة سياسية بل ضرب جديد من فن التقيّة

أعرف من بعض الخبرة أن المفاضَلة بين الصحف مسألة “مزاج” بالمعنى غير المزاجي لهذه الكلمة أي حيث المزاج هو حصيلة الثقافة والميول والبيئة. لا أقول “المصالح” لأن المصالح تدفع إلى متابعة الصحيفة المضادة والصحيفة المؤيدة معاً. طبعاً أتحدّث هنا عن اختيار الصحف حيث القارئ يستطيع أن يختار شرط وجود الحد المكرّس من حرية الصحافة كجزء من النظام السياسي للبلد. حيث لا حرية صحف لا حرية قارئ والعكس أكثر دقة: القارئ الحر هو الذي ينتج حرية صحافة. وقد يلاحظ القارئ أنني أتجنّب استخدام تعبير صحافة حرة لأن هذه مسألة نسبية جداً في عالم الدول الديموقراطية. لكن حرية الصحافة مصطلح ربما هو أكثر واقعية من “صحافة حرة” بل هو كذلك.
“هآرتس” أفضل جريدة في الشرق الأوسط مثلما “النيويورك تايمس” هي أفضل (ربما أعظم) جريدة في العالم. أقصد على المستوى المهني. مثلما “لوموند” هي أعظم جريدة في فرنسا والعالم الفرنكوفوني، وكنتُ أتمنى أن أقول في أوروبا أيضاً لولا نقص اطلاعي على الصحافة الألمانية إلا بشكل عابر. لكنْ أنا متأكد في حدود ما أعرف أنه “يحدث” دائما على صفحات الصحف الألمانية شيء مهم جداً ثقافياً أو فكرياً أو اقتصادياً أو أو أو… وكنتُ أعتبر دائماً، في ما يتخطى الصحافة اليومية نفسها، أن جيلنا اللبناني العربي حتى الذي أصبح مقيماً في الخارج تنقصُه معرفة جدية لتراث السجال السياسي في الصحافة الألمانية باستثناء طبعاً المتابعين المقيمين الجدّيين في ألمانيا. ولا أقصد هنا السجال محض الفكري الشائع المنقول إلينا من ولادات الماركسية والأجيال المتعاقبة من الاشتراكية الديموقراطية على صفحات الصحف، بل السجالات الألمانية بين الحربين وما بعد الحرب العالمية الثانية إلى اليوم. لا نعرف الكثير رغم التقدم الملموس في الكثير من دول العالم لصدور المقالات المحلية باللغة الانكليزية، لغة العالم والحضارة القائمة، ربما الحضارة “النهائية” على أساس توصيف “نهاية التاريخ” بصفتها الحضارة النهائية وليس نهاية التطور.
هناك دائما صحف مهمة في الكثير من البلدان، عدة صحف أو أكثر من صحيفة واحدة قطعاً في البلد الواحد. فإذا كنا لا نستطيع الجزم في بريطانيا من هي الصحيفة “الأعظم” كما في الحالات الأميركية الفرنسية والإسرائيلية، فإن عدداً من الصحف البريطانية هي من أعظم صحف العالم. ومؤخراً، بالمناسبة، ظهر جهدٌ مميّز لـ”الغارديان” حول الشرق الأوسط.

هآرتس
عندما زرت الفيليبين قبل أكثر من عقد، وهي ليست دولة متقدمة أو في الصف الأول في محيطها الشرق آسيوي، لفتني مدى تقدم صحافة التحقيقات ومكافحة الفساد فيها وصرتُ أفهم أكثر لاحقاً لماذا يسقط رؤساء ورئيسات فيها بسبب الفساد. فقد علّمتني التجربة كمراقب سياسي، أن وجود الصحافة الاستقصائية ليس علامة متقدمة بذاتها إذا لم ترتبط بتأثيرها على بنية النظام السياسي أي بقدرتها على إحداث التغيير. ولهذا هي في لبنان صحافة فضائح ولم ترقَ بعد إلى مستوى صحافة التغيير. في مكان ما هناك انقطاع صلة بين الجهد الصحافي وبين التغيير. لذلك هي صحافة تحت الهيمنة السياسية للقوى القائمة. والملفت، وهذا ما يهمني أن أسجله في هذا السياق، في حدود متابعتي، أن صحافة تحقيقات جدية بما فيها التعليق والتحليل، قادرة على تطوير دراسات العلوم السياسية في جامعات البلد المعني. على مستوى معيّن يغيب أي فارق أو يجب أن يغيب في العديد من المواد المُدَرّسة بين كلية الإعلام وكلية العلوم السياسية.
أوستراليا بلد متقدم بكل المعايير وثابت الحياة السياسية الديموقراطية خلافاً للفيليبين. لكن صحافته المحلية باهتة جداً ومحلية جداً وتلجأ عادة لاستخدام مواد الصحافة الغربية. ولهذا نجحت في السنوات الأخيرة طبعة خاصة لصحيفة “الغارديان” البريطانية مخصصة لأوستراليا في بلد لا تزال لندن مركز استقطابه الأول في الخارج وربما مركز “عقدته” الثقافية. (والصين مركز استقطابه الاقتصادي الأول).
دعوني أقدم حالة مهمة خاصة هي حالة “صحيفة الأهرام” المصرية. فـ”الأهرام” بدت خصوصاً في عهدَي الرئيسين أنور السادات وحسني مبارك ما سمّيتُه، ببعض المبالغة ولكن ليس دون دلالة، الصحيفة التي كل صفحاتها الداخلية أكثر أهمية مهنية من صفحتها الأولى، لأنه في ظروف مصر “لا مهنة” على الصفحة الأولى إلا بشكل محدود بسبب تقليد ارتهان الصحيفة الكلي دعائياً للدولة. بينما في الداخل تعج “الأهرام” بمجهودات شبكة ضخمة متفاوتة من الصحافيين هي واحدة من أكبر شبكات المحللين والأكاديميين والمحققين والمراسلين في العالم، بحيث هناك الكثير مما يستحق أن يُقرأ ويخاطِب أمزجةً مختلفة. (دعكَ من حالة محمد حسنين هيكل الخاصة جداً ككاتب وتجربته كرئيس تحرير).
عودة إلى أفضل صحيفة في الشرق الأوسط “هآرتس”: من عناصر القوة المهنية لهذه الصحيفة الشديد الأهمية اتساع مساحتها السياسية. إذ قد يقرأ القارئ فيها وبشكل شبه دائم بعض أقوى وأعمق النقد لأوجه مختلفة من الحياة العامة الإسرائيلية. وفي زمن الاختناق العربي والإسلاموي يستطيع أن يقرأ فيها مقالات لكتاب إسرائيليين وفلسطينيين يقولون ضد إسرائيل ما لا تجرؤ على قوله أية صحيفة عربية، على الأقل في الشأن الفلسطيني. وهي طبعا صحيفة إسرائيلية بكل معنى الكلمة عمقاً والتزاماً وتعبيراً عن مقومات الكيان العِبري، إنما تقريباً ليس فيها موضوع غير مطروح للنقاش بمعزل عن حدود هذا أو ذاك من النقاشات.
علينا الإضافة على الشعار: أعرف عدوك. تعلّم منه أيضا بل قلِّدْهُ أيضاً وأيضاً عندما يلزم الأمر! ولا خوف في أي حال على طاقات نُخبنا على الإبداع. المخيف هو العكس عندما يترك التخلفُ قرّاءنا عرضة للمزيد من صحافة الرقابة والتخلف.

(النهار)

السابق
المثلية الجنسية في صفوف تنظيم «داعش»
التالي
فرعون انسحب من جلسة مجلس الوزراء