استعادة لفكرة «المستنير العادل»

التنوير الغربي

في حقل التاريخ ودراسات الماضي، تكثر المقارنات والموازنات لاكتشاف جوانب من التناظر أو التنافر في الوقائع والأشخاص. ويحلو لكثيرين أن يعقدوا نوعاً من المشابهة الصورية بين الماضي والحاضر. ومع أن تلك المقارنات هي، في نهاية المطاف، مجرد تمرينات ذهنية عابرة، إلا أنها تحفِّز التفكير أحياناً، وربما تساعد في فهم الدوافع السياسية والشخصية، المرئية وغير المرئية، في أحيان أخرى. ومن الجانب الشكلي البحت، فإن الحريق العربي المندلع اليوم يشبه تلك الحروب التي فتكت بأوروبا قبل 500 سنة. أما في المضمون، فشتان ما بين النتائج التي انتهت إليها الحروب الأوروبية، والنتائج التي من المحتمل أن تتمخض عنها الحروب الأهلية العربية. وعلى سبيل المقارنة، فقد كلّفت حرب الفلاحين ألمانيا نحو مئة ألف قتيل في عام واحد (1524 ـ 1525). وتكبدت أوروبا جراء الحروب الدينية، بما في ذلك حرب الثلاثين عاماً (1618 ـ 1648)، 10 في المئة من سكان إنكلترا، و15 في المئة من سكان فرنسا، و30 في المئة من سكان ألمانيا، و50 في المئة من سكان بوهيميا في تشيكيا. وكان من بين نتائج التهجير أن صلة المهجّرين بكنائسهم وَهَنَتْ، وتخلخلت سلطة الكنيسة عليهم، وظهرت علاقات تضامنية جديدة بين الكاثوليك والبروتستانت لم تكن معهودة قبل ذلك. وكان هذا الأمر المقدمة الأولى لانبثاق فكرة التسامح الديني التي راحت تنتشر، لا بقوة المُثُل الدينية غير المتسامحة في الأساس، بل بقوة المُثُل التي تنبتها الدولة الجديدة.

اقرأ أيضاً: إيران: القوميات بدأت القتال.. و«المجاهدون» قادمون!

الكلام الجاري الذي يتغرغر به كثيرون من خطباء المساجد هو أن الإسلام دين التسامح، وهذه جملة ناقصة، ويجب إتمامها بالآتي: هل الإسلاميون، القدامى والجدد، متسامحون حقاً؟ والحقيقة أن العالم الإسلامي لم يعرف، منذ عصر الفتوحات الأولى، فكرة التسامح إلا في بعض المرويات المنشورة في الكتب، وفي فترات محدودة جداً. والغالب أن الإسلام يقبل الآخر، خصوصاً في أطوار الازدهار، لكنه لا يقبل الانشقاق عليه أَكان ذلك في الازدهار أو في الانحدار. وفي طورنا الراهن لا يوجد بلد إسلامي يستطيع فيه المسيحي أن يُبرز الصليب مثلاً من دون أن يتعرض للشتائم. وفي المقابل، لا يوجد بلد علماني يمنع بناء المساجد على غرار بعض الدول الإسلامية، ومن المحال العثور على كاهن يقف في كنيسته (إلا في ما ندر أو كردة فعل على الإرهاب) ليلعن كل مَن يخالف دينه، أو يدعو عليه كما يفعل كثر من خطباء الجمعة في البلدان الإسلامية. وفوق ذلك فالشيعة والإسماعيليون والهندوس والبوذيون وغيرهم لا يستطيعون الجهر بعقائدهم في السعودية من دون التعرض لهم بالتكفير والشتائم. والبهائيون جرى مسحهم في إيران إلا مَن كان كتوماً. والأحمديون (القاديانيون) ممنوعون من العبادة العلنية في كثير من المناطق الباكستانية على غرار البهائيين في مصر. وكلمة «التسامح» اليوم باتت من أكثر العبارات سوءاً في مضمونها السياسي، فهي تعني تسامح المسلمين مع غير المسلمين، تماماً مثلما كانت تعنيه قبل 500 سنة، أي تسامح الكنيسة الكاثوليكية مع المنشقين عنها. وهذه الكلمة إنما هي، في الواقع العربي المشتعل، صوغ متجدد لفكرة أهل الذمة. ولهذا فإن لغة النهضويين العرب لا تحترم هذا المصطلح، بل تشدد على عبارة «المواطنة المتساوية» التي يظللها الدستور والقوانين المعاصرة، وتحميها الدولة العادلة العلمانية والحكم المستنير معاً.

ورشة عمل عن التسامح

النهضة العرجاء
غمر التنوير أوروبا على أيدي الفلاسفة، ولا سيما مع انتشار العلم والمكتشفات العلمية التي جعلت الفكر الديني أخرس، ويدي الكنيسة راعشة. ومع شيوع التنوير ظهرت في مواجهته أفكار تدافع عن الله والملك والعائلة (لنتذكر شعار حزب الكتائب «الله والوطن والعائلة» وشعار «الله والملك والوطن» في الأردن والمغرب). وتلك الأفكار كانت محافظة ويمينية ورجعية معادية للفلسفة والتنوير. وكانت هناك ردود سلفية على أفكار النهضة والتنوير تدعو إلى «التقوى» ولا سيما في الآداب والفنون، تماماً مثل «الإخوان المسلمين» وأفكارهم التي انتشرت كردة فعل على الليبرالية التي غمرت مصر بعد ثورة 1919. والحركة الإصلاحية الإسلامية التي ظهرت في مصر وسوريا كانت، في جوهرها، رداً على الفكر النهضوي المتسربل بالعلم والعَلمانية معاً الذي راح يزدهر في ربوع مصر وبلاد الشام منذ أواخر القرن التاسع عشر فصاعداً. وحركة الإصلاح الديني التي جرى تبجيلها فوق ما تستحق، اقتصر «إصلاحها» على التحليل والتسهيل والترخيص، ولم يكن لها أي أفكار تجديدية أو معاصرة. وحركة محمد بن عبد الوهّاب في نجد والحركة المهدية في السودان والجماعة السنوسية في ليبيا ثم جماعات «الإخوان المسلمين»، استساغوا تسمية أنفسهم إصلاحيين أو إحيائيين، مع أنهم، بدعوتهم إلى العودة إلى صفاء الإسلام الأولي، يمثلون الخوف من العصر، ومجابهة الحداثة، تماماً مثل مارتن لوثر الذي لم يكن مصلحاً دينياً بقدر ما كان سلفياً أراد تخليص الكنيسة من البدع والطقوس. ألا يشبه في ذلك محمد بن عبد الوهاب على سبيل المثال؟ ومارتن لوثر كان، لمن لا يعرف، ضد عصر النهضة وفنونه، فحرّم الصور والرسوم والنحت والزخرفة في الكنائس، على منوال فقهاء المسلمين وكهنة اليهود. والعقل لدى مارتن لوثر «قحبة إبليس» أو «العاهرة التي تتبع الشيطان»، لأن الخلاص لديه لا يكون بالعقل، بل بمعرفة النص المقدس والعمل بأحكامه مثل أبو الأعلى المودودي (وتابعه سيد قطب) الذي يقول إن على البشر أن يحكموا بموجب النص القرآني، وكل مجتمع لا يُحكم بموجب ذلك النص هو مجتمع جاهلي.
لم يكن مارتن لوثر لاهوتياً أو فيلسوفاً، بل داعية. وهنا تكمن المشكلة حقاً، فالدعاة في بلادنا اليوم، على غرار مارتن لوثر، كانوا وما برحوا معوِّقاً قوياً أمام النقد الراديكالي الموجَّه إلى الجماعات المعادية للنهضة والتقدم. فالفقيه الإصلاحي محمد عبده، على سبيل المثال، لم ترتقِ فتاويه، على أهميتها، إلى منزلة الفكر، وكل ما أنجزه هو تحليل ارتداء الملابس الأوروبية واعتمار القبعة وإيداع الأموال في المصارف والحصول على الفائدة والأكل من ذبائح المسيحيين واليهود وإبطال تعدد الزوجات إلا إذا كانت الزوجة عاقراً.
كيف فهم الفقهاء العلمانية؟
العلمانية، في الأصل، قضية سياسية لا قضية دينية، لأنها تصب تفكيرها على طرائق بناء الدولة وإنشاء دعائمها وتمتين بنيانها. وعصر النهضة العربي لم يحمل معه، ما عدا الأفكار، أي نهضة اجتماعية جدية. وإذا كان في الإمكان اكتشاف بعض الملامح الاجتماعية، فإن السبب يعود إلى التعليم والتحديث والتأثر بفنون الغرب وآدابه وعلومه وصنائعه. ولم تتمكن الحركات العلمانية العربية المدينية من إقامة جسور من التفاعل الحيوي مع الكتلة الأساسية من الجمهور الذي ظل لابثاً عند عقائده التقليدية، خصوصاً في الأرياف. ولهذا لم يكن مستغرباً أن يقف الفقهاء موقفاً من العلمانية يفتقر إلى العلم والمعرفة والحصافة، فالشيخ يوسف القرضاوي يقول: «العلماني الذي يرفض مبدأ تحكيم الشريعة (…) هو مرتد عن الإسلام بيقين» (أنظر: عبد الرزاق عيد، سدنة هيكل الوهم: يوسف القرضاوي بين التسامح والإرهاب، بيروت: دار الطليعة، 2005). وفي مهرجان يوم الشهيد الذي أقامته «حركة المحرومين» («أمل») في اليونيسكو في 23/5/1976 قال السيد موسى الصدر إن لا فرق بين العلمانيين والملحدين والإسرائيليين والانفصاليين. ويقول راشد الغنوشي: «العلمانية بضاعة أجنبية، بضاعة مسيحية نمت في مرحلة الغزو الفكري» (راجع: الغنوشي، حوارات مع قصي صالح الدرويش، لا ناشر، 1992).
لماذا الغرغرة بالكلام المجدول الذي يلف ويدور من دون أن يقول قولاً حسناً واحداً؟ إما العلمانية بما تتضمن من فصل الدين عن الدولة، أو الاستمرار في إعاقة الاندماج الوطني في الدول المبتلاة بفقهاء الظلام مثل سوريا والعراق ولبنان ومصر.
الديموقراطية والمدينة
ليست الديموقراطية، كمشروع سياسي، مدرجة كأولوية على جدول أعمال القوى السياسية المنغمسة في الحروب الأهلية، وهي قوى ذات طابع ريفي تتوسل الفتن المذهبية لتدعيم وجودها. وهذه الحال هي أمر طبيعي في سياق تدمير المدن التاريخية كبغداد ودمشق وحلب بأيدي الميليشيات وحثالاتها. فالديموقراطية الحديثة هي الناتج التاريخي للمدينة التجارية الأوروبية التي تغلبت على أريافها الزراعية بالإنتاج والدينامية السياسية والفكرية بعد صراع طويل ضد الإقطاع باسم حرية المرور وحرية التجارة وحرية العمل (لنتذكر شعار «دعه يعمل دعه يمر» الذي رفعته البرجوازية الصاعدة آنذاك). أما تفوّق المدينة العربية على الريف فلم يكن وليد التفوق الإنتاجي، بل نتيجة التفوق الحربي الحاسم إبان الفتوحات وبعدها. وللمقارنة، فإن المدينة الأوروبية الحديثة هي مدينة التجار الذين حوّلوا التبادل إلى علم، وفيها ظهرت مفاهيم التراكم والادخار والاستثمار… الخ. بينما كانت المدينة العربية، باستثناء دمشق وحلب قبل الفتح العربي، مدينة الحاكم وأمرائه وشرطته الذين تباروا في السفه والتبذير والاستهلاك البدوي، وألجأوا التجار والحرفيين إلى الاكتناز خوفاً من المصادرة كلما احتاج الحاكم إلى الأموال لفجوره. والاكتناز، كما هو معروف في علم الاقتصاد، يعقِّم رأس المال. لهذا لا عجب إذا كانت الدعوات ضد السفور والاختلاط قد ظهرت في المدينة العربية، وفيها انتشر تحريم أكل البندورة وشرب القهوة واعتمار القبعة بدلاً من العمامة، وضد الأحزاب والصحافة باعتبارها بدعاً. ولا عجب أيضاً في انتصار السلفية اليوم على العصرنة والحداثة، ألم يقل عمر بن عبد العزيز: «من كانوا قبلكم أعلم منكم»، وكتب ابن رجب الحنبلي كتابه المشهور «فضل علم السلف على علم الخلف»؟ حتى توفيق الحكيم انتصر للماضي على الحاضر في مسرحيته «أهل الكهف» (1936). إنه التشرنق بعينه الذي نشاهد في كل يوم أثر فؤوسه في دمشق وحلب والموصل وبغداد.
السلاح لا يقتل
يقول مكيافيلي إن الدين والسلاح هما من أدوات الحكم بالضرورة، والحاكم يحتاج إليهما دائماً: الدين في زمن السلم، والسلاح في زمن الحرب. واشتهرت في ما مضى نظرية السيفين: سيف السلطة الدينية وسيف السلطة الدنيوية. والواضح، إلا لمن له عينان ولا يرى، أن الجماعات الإسلامية الفتاكة تستعمل السيفين معاً في زمن الحرب وفي زمن السلم. أما نحن فلا نريد سيوفاً، لا لأننا نخشى السلاح في حد ذاته، بل لأننا نخشى على مجتمعنا من السلاح في أيدي الهمجيات الدينية، ولأننا نعلم علم اليقين أن السلاح لا يقتل الناس، بل الناس هم مَن يقتلون الناس، ولأن مزج الدين بالسياسة كمن يمزج «النترات» بـ «التولوين» فيتحول المزيج إلى متفجرات.
ما عادت الغاية في هذا العصر العربي المتفجر فصل الدين عن الدولة، بل إخضاع الدين للدولة، أي إلغاء احتكار الطوائف للأوقاف وشبكات بيوت العبادة ومؤسسات الرعاية المذهبية كدور العجزة والأيتام والمستوصفات، فضلاً عن الأحوال الشخصية، تماماً مثلما فعلت الثورة الفرنسية حين وضعت أملاك الكنيسة تحت تصرف الأمة في تشرين الثاني 1989، ثم حلّت الرهبانيات وأقفلت الأديرة في شباط 1790. ومع ذلك لم تؤدِ العلمانية في فرنسا إلى اندثار الكنيسة، ولم تقضِ العلمانية في الولايات المتحدة على الكنائس، بل انتعشت الحياة الكنسية في ما بعد تحت ظلال العلمانية.
مَن يستطع أن يُخضع الدين للدولة؟ ربما كان، في سياق التمارين الذهنية، هو المستنير العادل حتى لو استبد، وهي الفكرة التي تبناها الإمام محمد عبده نفسه. وطراز المستنير العادل ربما نجده في فريدريك الثاني ملك بروسيا الذي كان راعياً لمفكري التنوير، وصديقاً لفولتير، وهو الذي أسس أكاديمية بروسيا وعيّن دالامبير رئيساً لها. والمستنير ليس شخصاً، بل نظام سياسي. ومهما يكن الأمر، فإن العلمانية من غير ديموقراطية هي بضاعة فاسدة أو مغشوشة، على غرار العلمانية التركية التي عاشت تحت سياط العسكر بالأمس، وتستمر اليوم تحت سطوة الإسلاميين. والديموقراطية من دون علمانية تعطينا مثال باكستان وأفغانستان، وربما العراق ولبنان تجاوزاً. وحتى لا تتحول الديموقراطية في أتون الحروب الأهلية وصفة للمستحيل، على غرار الاشتراكية في الماضي، لندعها تجلس مؤقتاً في ردهة الانتظار، ولينصرف العلمانيون مؤقتاً أيضاً إلى فكرة المستنير العادل (الديموقراطي)، وإلا فستبقى حالنا المتأرجحة بين النهوض والسقوط مثل رجل في بحيرة يتعرض لنيران اللصوص، فإن صعد هلك، وإن نزل غرق.

(السفير)

السابق
توقيف شخص في برج البراجنة لسرقته دراجة آلية من بيروت
التالي
«الإئتلاف السوري» يدعم الجيش الحرّ في معركة جرابلس