لغز العالم «أميري» الذي ذهب ضحية أحلامه‏

اميري
حفلت الأخبار والمعلومات والتحليلات، التي أحاطت بقضية "العالم النووي" الإيراني شهرام أميري، والتي بدأت مع حادثة اختفائه، في المدينة المنورة في المملكة العربية السعودية، في العام 2009، أثناء تأديته مناسك العمرة، بكثير من التناقضات والمغالطات، ولم تنته مع شيوع خبر إعدامه.

كان أميري شخصا عاديا حتى تاريخ اختفائه، في وطنه لم يكن معروفا قبل هذه الحادثة أيضا.

اقرأ أيضاً: إتفاق إيران والغرب: طريق عبّدها الوليّ الفقيه بدماء العرب

بعد فراره إلى الولايات المتحدة، ضجت باسمه الديبلوماسية الأميركية، وأسبغت عليه الصفات والألقاب، فصار عالما نوويا، له ارتباط مباشر بتصنيع الطاقة النووية في بلاده ويملك معلومات خطرة، لا يعرفها المجتمع الدولي عن برنامج إيران النووي، لكنها سرعان ما تراجعت عما اعتبرته خبطة أمنية ناجحة، وادعت أن أميري قدم إليها باختياره وخرج منها باختياره أيضا.

أما في بلاده، فبعد استيعاب صدمة فراره أنكرت علمه النووي، ثم استقبلته بعد سنة من “تغييبه” في الولايات المتحدة استقبال الأبطال وأطلقت عليه لقب “بطل إيران القومي”.

بعد تنفيذ حكم الإعدام شنقا بحقه، في الثالث من الشهر الحالي، حسمت المؤسسة الأمنية في إيران الجدل القائم حول سبب إعدامه، وادعت في بيان رسمي أن “شهرام أميري أعدم بتهمة الخيانة والتجسس لصالح العدو”.

إلا أن البيان الحاسم لم يقفل الباب على هذه القضية، بل فتحه على ألف سؤال وسؤال. فقضية أميري مازالت مبهمة وستبقى، وفيها الكثير من الخفايا والخبايا، رياح الزمن كفيلة بتعريتها وتفكيكها وتفتيتها.

التناقضات الأميركية والإيرانية في حسم من يكون شهرام أميري، ظهرت منذ اليوم الأول لظهوره في الولايات المتحدة، وباقية حتى بعد تخلص الجهتين من وجوده.

فالجمهورية النووية التي أحرجتها وأربكتها العملية الاستخباراتية الأميركية، أنكرت على الفور، علم أميري النووي، وادعى علي أكبر صالحي كبير مفاوضيها النوويين آنذاك أن “الصيد الثمين” لا علاقة له ببرنامج إيران النووي، وهو ليس عالما ولا حتى عاملا في مصانعها النووية، حتى أنه قال في أحد تعليقاته على هذه الحادثة: “من يكون شهرام أميري هذا…أنا لا أعرفه”.

بعد عودة أميري إلى إيران في العام 2010، أعلن المتحدث باسم السلطة القضائية غلام حسين أجه إي أن خروج أميري من إيران وذهابه إلى الولايات المتحدة كان تحت رعاية الأجهزة الأمنية الإيرانية وبالاتفاق معها، وادعى مسؤولون آخرون أن الأجهزة الأمنية الإيرانية تمكنت من خداع وكالة الاستخبارات الأميركية بأميري، وأرسلته إلى الولايات المتحدة للتجسس عليها وليس العكس، وأنه لم يفش أسرارا نووية، بل قدم معلومات مضللة شغل بها أجهزة الاستخبارات الغربية، بينما كانت إيران في هذا الوقت تتقدم وتطور برنامجها النووي بعيدا عن أعين الشر.

على المقلب الآخر، ذكرت وسائل إعلام أميركية أن علاقة أميري بوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي أيه) بدأت قبل وصوله إلى الولايات المتحدة، وأنه كان يعمل لصالحها منذ فترة طويلة، وسجل أول تواصل له معها في شهر ديسمبر من العام 2007، أي قبل سنتين من اختفائه في السعودية، ضمن برنامج أعدته لمواجهة إيران تحت مسمى “تهجير الأدمغة”، والذي كان هدفه استقطاب خبراء عسكريين وعلماء وباحثين وتقنيين نوويين، من أجل إضعاف قدرات الجمهورية الإسلامية في مجال الصناعات النووية.

اميري

من ضمن الشائعات المتداولة في ملف أميري أن تاجرا ألمانيا قدمه إلى مسؤول في الاستخبارات الأميركية، أثناء وجوده في فرانكفورت لحضور مؤتمر طبي، واستمرت علاقته بهذين الشخصين وتعمقت أكثر، بعدما أصبح مساعدا لممثل إيران في الوكالة الدولية للطاقة الذرية وسفره المستمر برفقة وفد بلاده إلى فيينا.

قبل ظهور أميري في الولايات المتحدة، وكان مصيره مازال مجهولا، اتهمت الجمهورية الإسلامية المملكة العربية السعودية رسميا، بلعب درو مشبوه في خطف الباحث في جامعة “مالك الأشتر” في طهران الدكتور شهرام أميري، كاشفة عن جانب من سيرته الذاتية، مولده، عمله البحثي في المجال النووي، تخصصه في علوم النظائر المشعة، إضافة إلى ارتباطه المباشر بالبرنامج النووي الإيراني بحثيا وتقنيا، تزامن هذا الاتهام مع تسرب معلومات سرية جدا عن برنامج إيران النووي، إلى العلن.

وفي 21 سبتمبر 2009، أي بعد مضي ثلاثة أشهر على اختفاء أميري، أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية، أن إيران انتهت من بناء محطة تخصيب “فردو” التي لم تكن قد صرحت عنها، وأكدت مصادر أميركية أن أميري هو الذي سرب هذه المعلومة إلى وكالة الاستخبارات الأميركية التي وضعتها بدورها بتصرف الوكالة الدولية، وذكرت أن أميري كان قد التقى في مكان شديد السرية في فرانكفورت عددا من المفتشين في الوكالة الدولية، مقدما لهم معلومات مهمة وتفاصيل خطرة عن موقع محطة “فردو” وأقسامها الداخلية، التي كانت حتى هذا الوقت غير معروفة لدى المفتشين. استتبعت عملية إفشاء المعلومات حول محطة “فردو” اغتيال العالم النووي مسعود علي محمدي أمام منزله في طهران.

في رسائل البريد الألكتروني الخاص بالمرشحة الرئاسية هيلاري كلينتون، التي سربتها وزراة الخارجية الأميركية في العام الماضي، يتضح أن أميري تحول بعد سنة من فراره إلى الولايات المتحدة، إلى عبء على السلطات الأميركية، وأنه استنزف وانتهى دوره، ولم يعد أكثر من مجرد ورقة محترقة أو بضاعة منتهية الصلاحية.

في إحدى هذه الرسائل، يبلغ أحدهم السيدة كلينتون أن “السيد الذي تحدثنا عنه، أشك أنه يعمل لصالح بلاده، لذلك يجب إغلاق ملفه بأقصى سرعة”. وفي رسالة أخرى، حول تسليمه لإيران “بخصوص الموضوع الذي تحدثنا عنه، سنواجه مشاكل معنوية ودبلوماسية وليس مشاكل حقوقية. يجب إيجاد طريقة لعودة صديقنا”.

أما بيت القصيد، فهو لماذا عاد أميري إلى إيران، بعد سنة من لجوئه أو خطفه إلى الولايات المتحدة، وهو يدرك حجم البطش الذي تمارسه أجهزة الأمن في بلاده؟ وهل خدعت طهران به واشنطن أم العكس؟ أم كلاهما خدعه؟ أم هو الذي خدعهما؟

ربما يمكن للفيديوات الأربعة التي صورها أميري، خلال إقامته في ولاية أريزونا الأميركية، ووضعها على موقع يوتيوب، أن تزيح اللبس عن كثير من الأسئلة، التي تطرحها تناقضات خطفه وتسليمه أو فراره وعودته، وربما تسهم في حل اللغز المحيط بقضيته.

في الفيديو رقم واحد، شرح أميري لشعبه وحكومته المعاملة غير الأخلاقية وغير الإنسانية التي يتعرض لها من قبل الأميركيين، الذين يضغطون عليه نفسيا وجسديا، لإجراء مقابلة متلفزة، يدعي فيها أنه عنصر مهم في الطاقم النووي لبلاده، وأنه لجأ إليهم بإرادته، وأنه قدم لهم معلومات عن البرنامج النووي الإيراني إضافة إلى نقله “لاب توب” يحتوي على وثائق مهمة في هذا الشأن. وقال أيضا إن فريقا متخصصا من غرفة عمليات الاستخبارات المركزية الأميركية بالشراكة مع جهاز المخابرات السعودية أقدم على خطفه ونقله إلى ولاية أريزونا.

في الفيديو رقم اثنين، تحدث أميري 162 ثانية، فقال: “ليس لي علاقة بالأبحاث النووية ولا تجربة أو معرفة سابقة لي في هذا المجال، أنا لست أكثر من باحث في علوم الأشعة الطبية” مضيفا أنه ينوي نيل درجة الدكتوراه في أميركا، والعودة إلى إيران، وأنه مشتاق لزوجته وابنه.

في الفيديو رقم ثلاثة، ومدته 53 ثانية، أعلن أميري أنه عازم على العودة إلى إيران وطلب من عائلته الدعاء له بالتوفيق.

في الفيديو رقم أربعة، قال إنه فر من قبضة عناصر الأمن الأميركيين وإنه انتقل إلى ولاية فيرجينيا، وفي أي لحظة قد يتعرض للاعتقال، وقد عرض على التلفزيون الرسمي الإيراني.

عقب تسجيل هذه الفيديو، لجأ أميري إلى مكتب رعاية المصالح الإيرانية في السفارة الباكستانية في واشنطن، ثم طار إلى طهران، وكان في استقباله في مطار مهرآباد، نخبة من المسؤولين، حيث عقد مؤتمرا صحافيا، شرح فيه ظروف اختطافه وإقامته الإجبارية في الولايات المتحدة، والضغوطات التي مورست ضده كي يدلي بمعلومات سرية عن بلاده ثم طريقة فراره إلى ولاية فيرجينيا، وعودته إلى حضن بلاده وعائلته بعد أربعمئة يوم من العذاب.

بعد سنتين من عودته إلى بلاده اعتقل أميري بتهمة التعامل مع العدو، وحكم بالسجن لمدة عشر سنوات، في الثالث من الشهر الحالي اتصل أحد رجال الأمن بوالده في مدينة كرمنشاه، وطلب منه الحضور لأخذ جثة ابنه، وقد عرف الأب أن ابنه أعدم شنقا من الأثر الذي تركه حبل المشنقة حول عنقه، بعد يومين أعلنت الجمهورية الإسلامية أنها أعدمت أميري بتهمة الخيانة العظمى وإفشاء أسرار نووية للعدو.

ليس محسوما ما إذا كان أميري عالما نوويا أم لا، فبعد اختفائه في السعودية، كان بالنسبة لإيران أحد أعلامها النوويين، أما بعد ظهوره في الولايات المتحدة، فلم يُرقّ إلى منصب عامل في “محل” نووي، بالنسبة للولايات المتحدة فقد دخل إليها صيدا ثمينا ثم خرج منها عبئا، لم يحسم ايضا أن أميري كان جاسوسا على بلاده أم جاسوسا لها.

اقرأ أيضاً: نعم.. إيران تخلت عن برنامج نووي عسكري

أما المحسوم في القضية كلها حسب الرأي العام الإيراني أن أميري تمكن من خداع الدولتين معا، فقد وعد الاستخبارات الأميركية برفدها بالمعلومات، واتفق مع الاستخبارات الإيرانية بالتجسس على الأعداء، أما الحقيقة المرة، فهي أنه مثل أي مواطن إيراني عادي، يرغب في السفر إلى أي بلد أجنبي، يحفظ كرامته وعقله وحريته، لكنه ذهب ضحية أحلامه.

السابق
بالصورة: سقوط قتيل جديد لحزب الله في حلب..
التالي
بلدية الغبيري: محسوبية في إزالة التعديات