الأزمة المالية المتفاقمة… هل تطيح بـ «الحريرية السياسية»؟

لم يكن المال يوماً «عملة نادرة» في الحياة السياسية في لبنان، بل أضحى وتحديداً خلال العقد الأخير ركناً أساسياً من قواعد اللعبة وأدوات «حرب النفوذ» الداخلية بين مراكز القوى المحلية والإقليمية، التي تخوض اشتباكاً متعدد الساحات.

ومن هذه الزاوية، تحوّل الواقع المالي المأزوم لرئيس الوزراء الأسبق، سعد الحريري، والذي خرج الى الضوء خلال العاميْن الأخيريْن «مقياساً» لمقارباتٍ وإسقاطات سياسية ذات بُعدين: الأوّل داخلي يتصل بتداعيات هذه الأزمة على زعامة رئيس «تيار المستقبل» على مستوى طائفته أولاً، واستطراداً على «وزْنه» ومعه حلفاؤه في قوى 14 آذار في المشهد اللبناني عموماً.

والثاني يرتبط بمغزى استمرار مشكلة «سعودي أوجيه» ودلالاتها ذات الصلة بمجمل احتضان السعودية للحريري، وما يمثّله من امتدادٍ لـ «إرث» والده الرئيس الشهيد رفيق الحريري في المملكة، وأيضاً للوضع اللبناني الذي دخل منذ اغتيال الحريري الأب في 14 فبراير من العام 2005 مرحلة استقطاب داخلي حادّ، اعتُبرت انعكاساً للتدافع «الخشن» في المنطقة بين الرياض وطهران التي تستخدم كل «الأسلحة» في إطار «ترسيم النفوذ» في لبنان كواحد من «خطوط الدفاع» عن مشروعها التوسعي.

وفي هذا السياق، يبرز تركيز خصوم الحريري في لبنان على أزمته المالية، باعتبارها تطرح علامات استفهام حول «مستقبل الحريرية السياسية»، وتعاطيهم مع ترجمة هذه الأزمة لبنانياً على أنها بداية أفولٍ لزعامة الحريري الابن لمصلحة «خيارات جديدة» ضمن الطائفة السنية، فتحتْ لها المملكة العربية السعودية الأبواب في الفترة الأخيرة وجعلتْها «على قدم المساواة» مع زعيم «المستقبل».

ولا يتوانى هؤلاء عن التعبير في الصالونات السياسية عن أن عدم دفْع الحريري رواتب وأجور نحو 500 من العاملين في مجموعة «المستقبل» الإعلامية منذ أكثر من عام، والتقارير عن صرف عدد من مرافقي مسؤوليه وحراس مقاره والمؤسسات التابعة له، هو من الخلفيات الرئيسية لاستعجال زعيم «المستقبل» قبل نحو 9 أشهر إنهاء الشغور في موقع رئاسة الجمهورية، ولو من بوابة تبني ترشيح زعيم «تيار المردة» النائب سليمان فرنجية، الوثيق الصلة بـ «حزب الله» والنظام السوري.

وبحسب الخصوم أنفسهم، فإن ترشيح فرنجية كان بالنسبة إلى الحريري «العرض الذي لا يمكن رفضه» من «حزب الله»، وأن الـ «deal» (الاتفاق) الذي أبرمه زعيم «المستقبل» مع رئيس «المردة» في باريس ضمَن له عودةً الى رئاسة الحكومة في العهد الجديد، تشكّل مدخلاً لاستعادة مكانته السياسية ووقف الاستنزاف الذي يعانيه في بيئته جراء الغياب الطويل عن لبنان (بين 2011 وفبراير 2016)، كما بفعل الأزمة المالية التي طالت ايضاً الكثير من اللبنانيين العاملين في «سعودي أوجيه» وعائلاتهم في «بلاد الأرز».

ومن هذا المنطلق، يرى مناهضو الحريري أنه يمكن أن يشكّل خلفية لعملية «ارتدادٍ» على ترشيح فرنجية لمصلحة دعم زعيم «التيار الوطني الحر» العماد ميشال عون، المرشح الرئاسي الرسمي لـ «حزب الله»، والذي يؤيده حزب «القوات اللبنانية»، على قاعدة أن الوقت ليس لمصلحة «المستقبل»، وأن الاستنزاف السياسي والمالي يفترض السير بتسوية شاملة في أسرع وقت بهدف لملمة الواقع الشعبي، وإنهاء التململ لدى قواعد «المستقبل» قبل موعد الانتخابات النيابية المقبلة في مايو 2017 بعدما شكّلت نتائج الانتخابات البلدية الأخيرة «جرس إنذار» قد يفضي إلى مفاجآت أكبر في الاستحقاق النيابي.

المقربون من الحريري

في المقابل، يرفض العارفون بواقع «تيار المستقبل» وطبيعة علاقته مع السعودية، ما يعتبرونه استثماراً لملف «سعودي أوجيه» في السياسة الداخلية، وصولاً الى «بناء خلاصات غير واقعية ولا تمتّ الى الحقيقة» عن علاقة الرئيس الحريري بالمملكة.

وإذ يذكّر هؤلاء باللقاءين اللذين جمعا الحريري بخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز خلال شهر رمضان المبارك، وفي أول ايام عيد الفطر، يشيرون إلى أن مسألة «سعودي أوجيه» مالية تقنية ولا أبعاد سياسية لها، وهي تشبه تماماً المشكلات المالية التي تواجهها أكثر من شركة مقاولات في السعودية نتيجة عدم صرف مستحقاتها المالية مثل شركة «مجموعة بن لادن»، وشركة «السيف» للمقاولات، كاشفين أن شركة «المباني» التي يملك غالبية أسهمها النائب اللبناني نعمة طعمة غير بعيدة عن هاجس الأزمة.

ويشير هؤلاء أنفسهم إلى أن موقع الحريري في المعادلة السياسيّة اللبنانيّة لم يرتبط مرة بالاعتبارات المالية، التي قد تشهد صعوداً ونزولاً في هذه المرحلة أو تلك، بل هو ثابتة تستند الى ما يمثّل، ومَن يمثّل في طائفته والى دوره على المستوى الوطني، وما يُعلّق عليه في المراحل المقبلة التي تفرض إحياء «صوت الاعتدال»، الى جانب علاقاته العربية والدولية ورمزيّته كابن رفيق الحريري، سواء لدى السعودية أو دول أخرى.

ويذكّر هؤلاء بأنه رغم الـ «one way ticket» التي قُطعت للحريري بعد انقلاب «حزب الله» على حكومته في يناير 2011 وغيابه القسري عن لبنان، إلا انه بمجرّد عودته في فبراير الماضي نجح سريعاً في لمّ شارعه في عزّ أزمته المالية، وحقق في الانتخابات البلدية الأخيرة نتائج كرّست زعامته رغم بعض الانتكاسات كما في طرابلس حيث بدت المعركة أقرب الى كونها «داخل البيت» نتيجة خلافات حول «سقف» المواجهة مع «حزب الله».

واذ لم يشأ أكثر من نائب في كتلة الحريري اتصلتْ بهم «الراي» التعليق على كل ما يُحكى عن أزمة مالية وتداعياتها السياسية على «تيار المستقبل»، يقول مقربون لـ «الراي» إن ما يقال عن إرباكات في قواعد «المستقبل» ليس حكراً عليه بل هو ظاهرة تتشارك فيها كل القوى السياسية، وهو ما عبّرت عنه بوضوح الانتخابات البلدية الأخيرة سواء على المستوى الشيعي («حزب الله») أو المسيحي («التيار الوطني الحر»)، معتبرين «أن مناخ التململ في صفوف جمهور الحريري لم يظهر على خلفيات مالية بقدر ما عبّر عن نفسه نتيجة خيارات سياسية غير شعبية».

تفاقم الأزمة

وبالعودة إلى الأزمة المالية التي يعانيها الحريري، يبدو أن الأمور آخذة بالتفاقم أكثر فأكثر، لاسيما مع إيقاف كافة المشاريع التي تقوم عليها شركة «سعودي أوجيه» (ثاني أكبر شركة في المملكة العربية السعودية).

الإيقاف الذي حصل خلال الأيام القليلة الماضية، جاء على خليفة تأخر دفع رواتب موظفي الشركة الضخمة، والتي تعمل في قطاعات الاتصالات والمرافقة والعقارات في المملكة.

وقد ذكرت تقارير صحافية أن عدد القضايا المرفوعة ضد الشركة ناهز 31 ألف دعوى، رفعت من قبل موظفي وعمال الشركة بسبب تأخر دفع الرواتب لمدة تصل إلى 9 أشهر.

وبينت التقارير أن وزارة العمل السعودية أوقفت جميع الخدمات عن الشركة، مثل التأمينات الاجتماعية والجوازات ما زاد من معاناة الموظفين.

إقرأ أيضاً: هل عفوية الحريري خطأ أم صواب؟

في هذه الأثناء، نقلت إحدى الصحف السعودية عن عدد من المهندسين العاملين في «سعودي أوجيه» أن الشركة امتنعت عن دفع الرواتب قبل 9 أشهر مضت، لافتين إلى أن هذا الأمر أدى لتراكم الديون عليهم، فضلاً عن عدم استطاعتهم تأمين لقمة العيش لأسرهم.

في السياق نفسه، نقلت الصحيفة عن أحد الإداريين تأكيده أن عدد موظفي الشركة بلغ 58 ألف موظف وعامل، لافتاً إلى أن نسبة «السعودة» تصل إلى 23 في المئة، معتبراً أن «تجاهل حالات تأخير الرواتب من الشركة، التي تمتلك أصولاً تتجاوز 30 مليار ريال، قد يؤدي إلى كارثة».

كما أكد أن الشركة أنهت أخيراً تعاقد 45 مهندساً سعودياً وأجنبياً في كل من فروعها، التي تنتشر في الرياض، وجدة، ومكة المكرمة، والمدينة المنورة، وجازان، وحائل، والشرقية، ودون أن تصرف مستحقاتهم.

وعلى وقع اشتداد الأزمة، قام مئات العاملين من مختلف الجنسيات بمخاطبة سفارات وقنصليات بلادهم، في الوقت الذي أعلنت صحف فيليبينية حظر التعامل مع 4 شركات سعودية من بينها مجموعة «بن لادن» و«سعودي أوجيه».

وجاء هذا القرار وفق ما أكدت هذه الصحف رداً على تسريح أكثر من 11 ألف فيليبيني، كما تلقت سفارة دولة المغرب خطاب تضرر عدد كبير من عمالتها.

وكان السفير الفرنسي في المملكة قد خاطب مديري الشركة وطالب بالتدخل السريع وحل إشكالية تأخر صرف الرواتب للعمالة الفرنسية، كما تواصلت سفارة مصر بالمملكة من جهتها مع قيادات الشركة لسرعة حل توقف مستحقات عمالتها.

وفي قنصلية بنغلاديش وباكستان يشارك عدد من المنتسبين بجدة في إيجاد حل فوري وسريع مع إدارة الشركة، ونقل عمال ملفات فيديو لتجمع العمالة، وبثها عدد من الفضائيات وسط شجب كبير من المجتمع، ما يشوه صورة الشركة.

إقرأ أيضاً: غالبية في «المستقبل» ضد خيار عون بعدما استشار الحريري نوابها

من جهته، أكد المحامي والمحكم القضائي عبدالكريم بن سعود القاضي، أن المادة (84) من نظام العمل والعمال حددت طريقة احتساب مكافأة نهاية الخدمة في ما نصه: (إذا انتهت علاقة العمل وجب على صاحب العمل أن يدفع إلى العامل مكافأة عن مدة خدمته تحسب على أساس أجر نصف شهر عن كل سنة من السنوات الخمس الأولى، وأجر شهر عن كل سنة من السنوات التالية، ويتخذ الأجر الأخير أساساً لحساب المكافأة، ويستحق العامل مكافأة عن أجزاء السنة بنسبة ما قضاه منها في العمل) حيث أوضحت المادة 85 من النظام طريقة احتساب المكافأة.

ودفعت أسعار النفط المنخفضة الحكومة السعودية إلى تقليص الإنفاق منذ العام الماضي؛ ما أثر بشدة على الأوضاع المالية لشركات الإنشاء والتشييد المحلية التي تعتمد على العقود الحكومية.

ومن أبرز تلك الشركات التي تضررت مجموعة «بن لادن» و«سعودي أوجيه»، التي تمر بأزمة مالية حادة تتواصل منذ العام 2013 حيث عجزت عن دفع رواتب 56 ألف موظف يعملون لديها منذ نوفمبر من العام 2015.

السابق
لوس أنجلوس تايمز: كيف أصبح المحيسني نجم الجهاد السوري؟
التالي
الانغماسيون الجهاديون… من هم؟‏