شرانق الحرير تلملم بقاياها تأهباً للرحيل

شرانق
يعبق لبنان بتاريخ أثيل يحاكي العصور القديمة، ولا يزال يقدم إبداعاته للعالم مثبتًا رصانة هويته، وعراقة تراثه. تراثه الذي لا يقتصر على شموخ أرزه ومدينة الشمس فحسب، بل على الحرف التقليدية، أحد أنبل أدوات التواصل مع الماضي البعيد الجميل، الماضي الذي يخلق الحاضر والمستقبل.

الحرف اليدوية أحدى ثوابت تراثنا العريق وكنز شعوبه التي لا يمكن أن ترحل من الذاكرة مهما مر عليها الزمن، هي المهارة الخاصة أو القدرة على التفنن في صنع الأشياء يدويًا. فما بالكم إن كانت إحدى هذه الحرف “إنتاج لوحات من شرانق دود القز”؟

حينما يشرع أذار من لملمة أشيائه تأهباً للرحيل، تقف عند الباب تنتظر بشغف شهر لا شبيه له، شهر عقد قرانه مع شجر التوت في اقليم الخروب في جبل لبنان.

تنطلق انعام فواز(من شحيم)، المهتمة بالتراث في جمع شرانق الحرير المستخرجة من دود القز، لتبدع العديد من اللوحات اليدوية التراثية، التي تمثل أجمل المظاهر الطبيعية من عصافير وورود. تستخدم الألوان المتنوعة والزخارف المختلفة (الخرز، البرق، الترتير) لإظهار إبداعها الفني المتميز ولتزيد من جمالية العمل. وأوضحت أن عملها في شرانق الحرير يتطلب جهداً كبيراً منها خلال قص الشرنقة على شكل تويجات أو غصون أوراق لتنثرها على لوحة المخمل بطريقة فنية طبيعية.

هذه المرأة الستينية، نسجت الفن بأجمل اللوحات، كانت تبتاعها بأسعار مقبولة تتراوح بين 80 ألف وما فوق وفقاً لحجمها، لكن اليوم لندرة وجودها، إرتفع سعرها في السوق للتجاوز ال100 دولار آميركي للوحة الصغيرة. أضافت في حديث لـ«جنوبية» :”أحببت هذه المهنة الفذة، وكم تمنيت الإستمرارية بها لكن للعمر حقه علينا، حاولت أن أحبب أولادي بها إلاّ أنّ هذا الجيل لم يعد يجد الدهشةَ إلا في الحياة الإفتراضية.”

أغلب البيوت تزينها شرنقات الحرير بأشكال مختلفة، تتباهى أمهاتنا وجداتنا بها،لأنها لا تزال تعتبرها جوهر تقافتنا وثروتنا. فحرفة نسج الشرانق هي عودة للماضي ورؤية بصرية للتراث الفني، ولا يزال البعض يحفظه ويصونه من الإندثار.

تهاني نابلسي(من مزبود) لديها ريشة تنسج الإبداع بأناملها الخلاقة، وقالت لـ «جنوبية»: «عشقت شرنقة الحرير، نسجت بها أفكاري بتفاصيل فنية دقيقة وصعبة جداً، مارست هذه المهنة على مدار سنوات كثيرة، لكن في هذا الواقع لم يعد يكن الناس أي إهتمام له فتراجع الطلب عليه.” وأضافت:” لكل عمل همومه وشجونه الخاص، ,فهذه الحرفة الذي فخر به أبناء الحضارة اللبنانية المتجذرة بعمق التاريخ، تتطلب العزيمة والصبر، والأهم على تقدير من الناس بمعرفة قيمته التراثية المبطنة”.

نابلسي وفواز، قررتا الحفاظ على جزء من هذا الإرث عبر إهداء الأجيال القادمة بعض من أعمالهن، لتبقى صورة عن قصة تتداولها الأجيال بين بعضها. ومن يدري ربما بهذه الوسيلة تسطيع هاتان الإمراتان وغيرهما من النساء اللواتي ذكرن أبناءهن بجزء من أعمالهن، أن يحافظن على زمن”شرانق الحرير ودود القز” من النكران.

الحصول على المواد الأولية
وعن المواد التي تستخدمها في التصنيع: الحرير والخشب والمُخمل، من أكثر المواد الأساسية الداخلة في تصنيع اللوحات التي تلاقي إقبالاً ورواجاً ملحوظاً. إلا أن الحصول عليها بات أمراً ليس بالسهل نسبة لأسعاره المرتفعة وتراجع الإهتمام بتربية دود القز. وقد إتجه مشروع نابلسي إلى التوقف بسبب إعتماده بشكل أساسي على دودة القز والتي باتت بدورها تتقلص وتتجه نحو الزوال تدريجياً لإنخفاض أعداد مربيها وتقلص المساحات المخصصة بمزارع التوت .

تربية دود القز
تمر صناعة الحرير بمرحلتين رئيسيتين؛ تتمثل الأولى في مرحلة زراعة أشجار التوت من أجل إنتاج وتربية ديدان القز بغرض إنتاج الحرير، وتتمثل المرحلة الثانية في إنتاج البيض الذي يتحول ليرقات ثم ديدان تنتج الحرير الطبيعي. بعد شراء حبات دود القز,تغلف بشقفة قماش لمدة عام وعندما يحل فصل الربيع، تتفتح الحبات مع موسم التوت وتخرج دودة القز لتبدأ بنسج شرنقة الحرير على أنغام الموسيقى، فدود القز تعشق الطرب وترقص على إيقاعه.بعد ذلك يبدأ خيال النساء اللواتي إمتهن هذه الحرفة بنسج أفكار خلاقة.

اقرأ أيضاً: بعد تقاعس الدولة: شباب متطوعون يحيون السياحة في بعلبك!

من المسلم أن التغيير هو سنة الحياة، وهو عامل رئيسي للتقدم والتطور، واللامبالاة في جمالية الحرف وفنونها قد يؤدي بها إلى الإندثار أمام أي عاصفة هوجاء، لذلك التغيير في سياق طبيعي دون حرق الماضي ونكرانه أمر ضروري. فكم من إبداعات وإبتكارات أغنت عالم الفن والإبداع ورفعت لبنان إلى أسمى درجات الرقي والتميز.

 

السابق
الكعب العالي يسبب السرطان!
التالي
ماذا بعد التحريض على مخيم «عين الحلوة»؟