الليطاني شهيداً

ليست الأنهار في عمقها الأخير مجرد مجارٍ متعرجة تجترحها الجبال لتصريف ما يفيض عن أحشائها من السهول والثلوج الذائبة، أو لتغذية البحار بما يلزمها من المياه. بل هي إضافة إلى ذلك، تصادٍ مُترَع بالنشيج بين حاجة المكان إلى تشكل جمالي، وحاجة الزمان إلى ناظم بارع لحركة الفصول والتعاقب السرمدي لحيوات البشر. ولأنها كذلك فهي تنفتح على غابة لا تحصى من الدلالات، وتتصل بصورة الفردوس المضفورة بأنهار ثلاثة من اللبن والخمرة والعسل، أو بصورة الأسطورة التي تنقل الذاهبين إلى الموت من ضفة إلى ضفة، أو بصورة المقدس الديني التي عمّدت جسد المسيح في مياه الأردن. وحيث ترمز المحيطات والبحار إلى مشاعية الأرض وهلامية المشاعر «العولمة»، استطاعت الأنهار بالمقابل أن تنصهر مع مشاعر الساكنين على ضفافها، بما جعلها قمينة بترسيم الحدود بين الدول والممالك، أو بدفع الجماعات المختلفة إلى التحلق حول مياهها عبر عشرات العواصم والمدن المأهولة.

كل نهر بهذا المعنى هو اتحاد نادر بين الخاص والعام. فكل حضارة من الحضارات هي اختراع نهر ما، بقدر ما هي ثمرة من ثماره، منذ زمن السومريين والبابليين والفراعنة وروما القديمة وصولاً إلى يومنا هذا. والنهر، كبُر أم صغُر، هو أمازون التهيؤات الذي رفد شاعريات الأرض بأعذب القصائد، ورفد مخيلاتها بأبهى الأساطير، ورفد لغاتها الحية بأفضل ما أنتجته من روايات. إذ عبر تلك الحبال الرخوة للمياه أمكن لشولوخوف أن يكتب «الدون الهادئ»، وللطيب صالح وشوقي وحافظ، أن يصوغوا من مياه النيل سرديات وقصائد فاتنة، ولبدر شاكر السياب أن يمنح مجرى بويب الضحل ما ينافس به أكثر أنهار العالم غزارة وعتواً. فالأنهار التي تقيم الحدود بين الدول، ترفع بالمقابل الحدود بين الواقع والاستعارة، بين الوعي واللاوعي، وتعمل على تسييل الذكريات وتحريرها من كل عقال، ليتماهى جَرْسها الشجي مع حاجة المعاجم إلى التفتح واللغة إلى الانعتاق.

يتجاوز الليطاني بهذا المعنى كل رسم بياني على خارطة الوطن الصغير الذي يشقه النهر من الوريد إلى الوريد. ليس فقط لأنه جزء لا يتجزأ من الهوية الوطنية التي طالما عمل العدو على تشتيتها وكسر شوكتها ونهب ما تختزنه من ثروات، بل لأنه العصارة الأنقى لما ذرفناه عبر التاريخ من دموع، ونزفناه من دماء، وتراشقنا به من شظايا الفرح ورذاذ الضحكات. لقد كان النهر على الدوام عرسنا المائي الذي أقمنا على ضفافه ولائم الشهوة، وشعائر القيامة والموت، متخفّفين من وعثاء الحروب المتعاقبة ووسخ التنابذ الأهلي. وهو الذي تبادلنا معه الأدوار، فأترعناه بوجع العيش ورمق الأرواح الأخير، بقدر ما أترع أرضنا بالخصوبة، وتبغنا بالإخضرار، وأسرّتنا بالأحلام، وسهولنا بزهر الليمون، وعرق جباهنا بالسنابل. وهو الذي أحببناه رائقاً وساكناً في صيف حياتنا الوادع وتركنا لأجسادنا الغضة أن تنعم ببرودته المنعشة، وغفرنا له عاصفاً سورة غضبه التي لم تشفع بفلذات أكبادنا الغرقى.

اقرا ايضًا: هكذا حوّلت الثنائية الشيعية مشروع الليطاني الى «مجرور الليطاني»!

ليس صدفة، تبعاً لذلك، أن يكون الليطاني هو الظهير الفعلي لشاعريات الجنوب التي أخرجها النهر من سباتها إلى العلن وأن يكون المنجم الأهم لألوان الرسامين ومخيلات الروائيين وأصوات المغنين المنقوعة بالشجن. ومَن سُمُّوا ذات يوم بشعراء الجنوب لم يكونوا في صميمهم سوى هبة النهر الذي حقن شرايينهم بأمصال اللغة وترنحات الإيقاع ولهب الاستعارات الطازجة. ولم تكن مجموعتي الثالثة «أغنيات حب على نهر الليطاني» سوى محاولة متواضعة لقطف الشعر عن الشجرة الأم التي رواها النهر بأقصى ما يمتلكه من مياه الشجن، حيث ظلت نساء الجنوب وصباياه ينتظرن بلا طائل شباناً توزعوا بين المقاومة وبلاد المهجر، ووعدوهن بطرحات أعراس ومحابس زفاف لم تأخذ طريقها إلى التحقق. صحيح أن تلك الأعراس قد أزهرت في ما بعد على أيدي مقاومين أشداء محضوا النهر كل ما يحتاجه من أسباب الكرامة والمنعة وضوء الشمس، لكن الصحيح أيضاً أننا لم ننتصر بما يكفي للنهر الذي راح يلفظ أنفاسه أمام أعيننا المشيحة عنه، وآذاننا التي تصمّ سمعها عن نشيجه المخنوق.

إنني لأتساءل الآن: كيف أمكننا أن نحتمل مثل هذا العار؟ كيف أمكننا أن نغضّ الطرف عن كل أولئك الذين حولوا الوطن إلى معرض واسع للأوبئة والمزابل وتصريف سموم النفايات، من دون أن يرف لنا جفن؟ بل كيف لنا أن نقاوم العدو بكل ما أوتيت إراداتنا من بسالة، ولا نقاوم موت النهر الذي منحنا قوة الحياة وجوهر المعنى وجموح الرمز في العبارة؟ فالليطاني لم يمت بالسكتة المائية، بل نحن من أسلمناه منذ سنين إلى حرب استنزاف طويلة وغير مسبوقة مع الجلادين الذين تكالبوا عليه بمجاريرهم وكساراتهم ورمالهم وروث مصانعهم وفضلات أطماعهم التي لا تعرف الرحمة. والعدو الذي طالما حلم بسرقة الليطاني أو بقتله لم يعُد مضطراً الآن إلى ذلك، بعد ان أعفيناه نحن من هذه المهمة وتركنا النهر يسقط شهيداً على مذبح الجشع والتواطؤ والقهر وانحلال الدولة. لقد سبق لأحمد قعبور أن هتف قبل سنوات «يا رايح صوب الليطاني/ دخلك وصّلِّي السلام»، لكن هتافه ذاك تحول إلى صرخة في البرية. فهل ثمة مَنْ يتلقفها بعد؟

(السفير)

السابق
كليمانس أشقر تعود الى الساحة
التالي
سانا: الأسد يصدر مرسوماً لمنح عفو عن «كلّ مَن حمل السلاح» وبادر الى تسليم نفسه