اللامعرفة كشرط للتعايش مع الحاضر

تتسارع وتيرة الأحداث في العالم، من ثورات إلى مجازر مروراً بانقلابات وانقلابات مضادة، لتشكّك في قدرة من يتلقاها على استيعاب عواقبها ومعانيها، أو هضمها أخلاقياً، أو حتى تصنيفها كأحداث مهمة أو أحداث عابرة. فلم يمرّ أسبوع في الآونة الأخيرة، إلا وتخلله حدث «تاريخي» يلغي مفاعيل الحدث «التاريخي» الذي سبقه، بحيث أصبحت صلاحية «التاريخ» تقاس بأيام، هذا إن لم تكن بساعات.

وتسارع الأحداث هذا لا يشكّل تحدياً لقدرتنا الاستيعابية فحسب، بل أيضاً لطاقتنا الأخلاقية على التعايش مع هذا المسلسل الدائم من العنف والقتل. فلم تنته مفاعيل تفجير بغداد الذي أودى بحياة أكثر من مئتي شخص حتى أتت عملية «نيس» وصور الدهس المريعة لتأخذ مكانها، هذا قبل أن تضعها جانباً محاولة الانقلاب التركي واحتمالاتها القمعية لتزاح بدورها مع صور قمع الانقلابيين والقمع المضاد. ولا يمرّ أسبوع من دون أن نجرّ إلى محكمة الأخلاق المستعجلة، مطالبين بتحديد موقف من حدث ما، أو باختيار الضحايا الذين «يستحقون» التعاطف، أو تبرير نقص تضامننا مع ضحايا آخرين، وهذا كله قبل أن تبدأ محاكمة أخرى لحدث آخر.

وهذا التسارع، معطوفاً على تطور وسائل الاتصال الاجتماعية وغفلة الأيديولوجيات التي كانت «توضح» التعقيدات السياسية، بات يؤدي إلى نوع من «الحذر» الأخلاقي، يأخذ أشكالاً مختلفة. فغالباً ما يكون الموقف من حدث ما على شكل «الضدين»، أي الرفض لقطبي الثنائية، أكانت عسكراً مقابل إسلام سياسي، أو إرهاباً مقابل إسلاموفوبيا، أو خارجاً مقابل داخل. وقد يأخذ هذا التناقض أبعاداً زمانية أحياناً، يشترط الدعم زمانياً للتحوّل المتوقع للمستضعف إلى طاغية (مع اردوغان في وجه الانقلاب، وضده في قمعه للانقلاب، أو مع الأكثرية السنية المقموعة اليوم ومع الأقلية العلوية التي ستقمع غداً).

بيد أن هذا الحذر لم يعد يكفي في عالم يُصنع فيه الضحايا بسرعة تفوق سرعة «استهلاكهم». فبات مطلوباً أيضاً توزيع التضامن بتساوٍ على كل الضحايا، من أورلندو إلى بغداد، مروراً بسورية وفرنسا، مع صرخات استنكار حين لا يكون التوزيع بالتساوي. في عالم متسارع ومتشابك، فقد المرء قدرته أو حتى حقّه بـ «اللامعرفة» وبالتالي «اللاموقف» من الأحداث. قد يكون مطلب اللامعرفة هذا نفاقاً في عالم تزداد فيه القسوة، لكنه قد يشكّل أيضاً شرطاً للحفاظ على شيء من السلامة الأخلاقية.

إقرأ أيضاً: السيد محمد حسن الأمين يكشف الاسباب الحقيقية لتفشي الارهاب

وبعد كل حدث، وبعد حفلات التضامن والاستنكار، يعترض البعض على هذا التضامن «الصوري» مطالبين بتسييس فعلي لهذا التضامن ينطلق من كشف البنية السياسية والاقتصادية والخطابية للعنف والظلم. لكن إذا كان من السهل انتقاد «أخلقة» السياسة هذه، التي باتت تعمّم المنطق «الإنساني» على كافة الصراعات السياسية، فقد تكون هذه الأخلقة وتناقضاتها آخر ما تبقى في وجه عالم لم يعد «يسيّس» وفق المنظومات المعتادة. فبالعودة إلى كارل شميت، قد يكون ما يميز السياسة قدرتها على تحديد الأصدقاء والأعداء، وبالتالي قدرتها على طرح مسألة العنف. وقد تكون هذه المسألة ما يقف عائقاً اليوم أمام إعادة تسييس هذا التضامن. فالحذر الأخلاقي يبتعد عن لغة الأصدقاء والأعداء ولا يعترف إلا بـ «المعارف»، وهم مزيج من أصدقاء محتملين وأعداء ممكنين.

قد تكون جرعة من «الشميتية» ضرورية للخروج من التناقض الحالي، بيد أنّها تصطدم اليوم بفائض المعرفة الذي نعاني منه، بخاصة معرفة الأعداء. بكلام آخر، قد لا يبقى إلا هذا «الحد الأدنى» القائم على رفض القسوة في وجه هذا الانهيار. فعلى رغم هشاشة هذا المفهوم وركاكته النظرية، لا يبدو أن هناك موقفاً غيره يصمد اليوم في وجه التقلبات والتحوّلات، ويقدّم مخرجاً أخلاقياً ومحفزاً للعمل. ففي وجه قسوة لم تعد لها حدود أو مغزى، فإن رفضها قد يكون كل ما هو متاح، من دون الحاجة إلى أي تسييس إضافي.

فتناقضات المواقف التي تواكب كل حدث قد تكون إشارة إلى هذا الميل للبحث عن أساس ثابت أخلاقي لمواجهة تقلبات الواقع. بهذا المعنى، الحذر الأخلاقي بات الوجه الآخر للضياع السياسي والمفهومي الذي يواكب الحاضر، وقد يكون هذا الضياع سمته الأساسية. فقد باتت مفاهيم كـ «الثورة» و «العلمنة» و «الدولة» مثلاً غير قادرة على التقاط معاني ما ترمز إليه، كما فقدت التقاليد الأيديولوجية، من «يسار» إلى «يمين»، إمكانيتها على تنظيم العالم وتأطيره. هذا بالإضافة إلى أنّ الروايات التاريخية، كصراع الإسلام السياسي والعسكر أو سيرورة الإصلاح الديني والحداثة، باتت غير كافية لفهم ما يجرى، ولا تصلح إلا لتعليقات مستعجلة على حدث سريع. وفي هذه المطالبة لتقييم مباشر ودائم ومستمرّ لعالم يصعب علينا فهمه، تقع مأساة حاضرنا. فالمطلوب تقييم الواقع بمادته الأولية، من دون أي رواية تساعد على تنظيم أحداثه وتوزيع الأدوار وتحديد المسؤوليات.

ربّما حان الوقت لاستبدال عبارة ماركس المبتذلة بعكسها الأكثر ابتذالاً: «المطلوب ليس فقط تغيير العالم بل تفسيره». فلا يمكن تكرار عبارة «نهاية مرحلة» التي نقرأها في معظم المقالات، من دون طرح السؤال المنطقي الذي ينتج منها، أي ماذا تبقى من المنظومات الفكرية التي نظّمتها. فالحذر الأخلاقي ليس إلا إشارة إلى انتهاء صلاحيات منظوماتنا الموروثة. وهنا أيضاً تعود اللامعرفة لتشكّل المخرج من فائض الخطابات التي تحيط بالواقع، والرد على سؤال كيفية الخروج من هذا الفائض.

إقرأ أيضاً: خامنئي يحذر جامعات إيران من «عودة التيار الماركسي»

يشرط المفكر برونو لاتور تطور علوم الاجتماع بلحظة «جهل» تسمح بإعادة طرح المسائل بأشكال جديدة والتحرّر من القوالب المعرفية التي باتت تعيد إنتاج ذاتها بذاتها، من دون أي قدرة على تفسير ما يجرى. قد لا يكون من الضروري الذهاب مع لاتور في فلسفته، لكن الوقوف على التحدي الذي يرفعه في وجه علوم الاجتماع. بهذا المعنى، بتنا نعرف الكثير من دون أن نعرف الكفاية، وما من مخرج «معرفي» لهذه المعضلة الأخلاقية والمفهومية في آن.

بكلام آخر، قد يكون الطريق لإعادة التفكير في السياسة، أكانت تضامناً أو أخلاقاً أو تفكيراً، قبول فكرة انتهاء مرحلة، وإعلان ضرورة اللامعرفة كمدخل لها ولإعادة القدرة على المفاجأة، أكانت سلبية أم إيجابية.

(الحياة)

السابق
جبهة النصرة تبث شريطاً مصوراً لأسير حزب الله
التالي
إلى أين أُخذ الأسير وسماحة؟!