أي مرحلة تدخلها تركيا بعد «الانقلاب»؟

الاعتقاد السائد هو أن محاولة “الانقلاب” قد فشلت، وتركيا اليوم لم تعد تركيا قبل عدة أيام فقط.

والاعتقاد السائد، أيضاً، هو أن تركيا دخلت مرحلة جديدة، لأن النتائج التي باتت تترتب عليها لم تعد أمنية أو استخبارية، وإنما هي بحكم الواقع وبحكم “الضرورة” مرحلة انقلاب شامل مضاد سيطال البنية السياسية والقانونية والاجتماعية والثقافية في عموم البلاد، وستؤدي من بين ما ستؤدي إليه إلى اختلالات وتبدلات عميقة في هذه البنى، وستفضي حتماً إلى زيادة حدّة الاستقطاب السياسي، وربما الاجتماعي في البلاد، وقد تؤدي في مراحل لاحقة إلى اصطدامات من نوع أكبر وأخطر ومختلف عمّا عبّرت عنه أحداث هذا “الانقلاب”.
أما وأن الأحداث التي تلت تلك المحاولة الفاشلة ما زالت مستمرة فإن كل محاولة على استشراف الآفاق المرئية في تركيا تنطوي حتماً على “مغامرة” ما .. ومع ذلك فإن قراءة اتجاهات الأحداث هي مهمة كل باحث وكاتب سياسي من جهة، وهي مهمة وعلى الرغم من صعوبة الإقدام عليها، إلاّ أن مثل هذه القراءة هي ضرورية وممكنة من جهة أخرى، بقدر ما يتعلق الأمر بقراءة الاتجاهات العامة. علماً بأن كل اتجاه عام ينطوي على درجة معينة من الانحراف المؤقت عنه، بل ويمكن القول بأن هذا النوع من الانحراف هو من طبيعة الاتجاه نفسه، ومن طبيعة ارتطام الأحداث وتواليها في الحياة الواقعية، وهو الأمر الذي يُخفّف من وطأة “المغامرة” التي أُشير إليها.
دعونا نبدأ بالتحفظ الذي لا بدّ منه على ما سُمّي بأنه انقلاب أو محاولة انقلاب.
أغلب الظن أن الأمر يتعلق بتمرُّد جزئي مرصود من قبل الأجهزة الاستخبارية التركية، وإلاّ لما تركته هذه الأجهزة ليعلن عن نفسه بهذه الطريقة التي تنطوي على درجة “مُحيّرة” من السذاجة.
فإذا كان صحيحاً ما يُقال عن علم ومعرفة الاستخبارات التركية بهذه المحاولة قبل عدة أيام يصبح السؤال المنطقي حول لماذا أُفسحت الفرصة والمجال لهذه المحاولة؟

إقرأ أيضاً: هذا هو «مراد علمدار» الحقيقي.. «الثعلب التركي» الذي أنقذ اردوغان
ولو كان الأمر يتعلق بانقلاب فهل كانت الاستخبارات التركية ستتيح له فرصة “المحاولة”؟
إذن (في حالة إن صحّ علم الاستخبارات التركية المسبق بالمحاولة) المسألة مدبّرة على الأقل من زاوية “إعطاء الفسحة” بهدف الانقضاض على من يرى النظام في تركيا فيهم خصومه وأعداءه أو المناهضين له ولتوجهاته. هذا إذا استبعدنا أن تكون للاستخبارات التركية يد خفية في داخل القائمين على هذه المحاولة الانقلابية، أو على هذا التمرّد كما يجب أن يوصف بهذا الأمر بصورة ملموسة؟
ولكن وبعيداً عن كل هذا فإن اتجاهات التطور في تركيا في المديات المرئية ربما تكون وفق المعلن حتى الآن من قبل السلطات التركية الرسمية هي التالية:
أولاً: لم يعد باستطاعة حزب العدالة والتنمية أن يُمكّن نفسه في السلطة السياسية بدون “تقليم” أظافر الدستور التركي، وهو (أي الحزب) بات يرى ضرورة “ملحّة” لهذا التقليم، والأمر بات متيسراً من زاويتين هامتين:
1 ـ الأغلبية التي يمتلكها في البرلمان.
2 ـ الغطاء الدخاني الإعلامي الذي وفّرته أحداث المحاولة الانقلابية.
ثانياً: تطهير سياسي ممنهج لمؤسسة الجيش وكل مؤسسات الأمن والقضاء والإعلام وربما التعليم وباقي المؤسسات الحكومية الأخرى.
3 ـ تحويل كل ما يسمى بالمعارضة الدستورية في تركيا إلى كليشيهات سياسية تحت طائلة الاتهامات بـ”الانقلاب” أو تأييده، أو التعاطف معه أو إلصاق تُهم جديدة في اطار “محاولات” جديدة واستخدام كل ما هو متاح من وسائل ومؤسسات لتكريس هذا المفهوم للمعارضة.
ثالثاً: دخول تركيا إلى نوع جديد من “الديمقراطية”، وهي ديمقراطية الحزب السياسي الواحد المغلقة والغطاء بالشرعية الدستورية، الشرعية من زاوية ما أفرزته الانتخابات والدستورية من زاوية ما سيتم تعديله في الدستور لاحقاً.
رابعاً: إطلاق يد الرئيس التركي فيما يتعلق بإقامة نظام رئاسي جديد قائم على “أساس” ما بات مكرساً للرئيس بعد إزاحة المعارضة من داخل الحزب قبل عدة أشهر، وإزاحة المعارضة خارج الحزب كما يجري الآن وكما سيجري بوتائر متسارعة في الأيام القادمة.
خامساً وأخيراً: التوجه التركي المتسارع نحو الاستدارات المطلوبة في مختلف الاتجاهات والمجالات سواء على صعيد السياسة الدولية أو الإقليمية تحت “وابل” من نيران ودخان هذه “المحاولة”، سواء تعلّق الأمر في المزيد من “التورّط” التركي في الملفات الإقليمية أو ربما الانسحاب التدريجي من هذه الملفات والتخلص بسرعة من الآثار السلبية المدمّرة التي ترتبت على دور تركيا ومكانتها واقتصادها جراء هذا التورط.

إقرأ أيضاً: دور استخباراتي روسي في كشف انقلاب تركيا قبل ساعات من حدوثه
هناك الكثير الكثير من الحقائق التي ستكشفها الأيام القادمة بما في ذلك السؤال المشروع عن محاولة للانقلاب مدبّرة ضد النظام، أم بتدبير من النظام أو بعلمه ومعرفته؟
والأيام القادمة ستكشف فيما إذا كان التخلص من الخصوم الداخليين في الحزب ومحاولة التصالح مع المحيط الإقليمي كان أمراً مدبراً تمهيداً للمرحلة الجديدة، أم أن هذه القضايا (بدون تدبير مقصود) أصبحت واقعياً المدخل المناسب لإقامة نظام رئاسي مطلق وغطاء سياسي بحكم الحزب الواحد بمظلة ديمقراطية شكلية.
لكن المؤكد أن الجيش التركي بما عُرف عنه من صلابةٍ في الدفاع عن علمانية الدولة لن تمر عليه أية محاولة لمسرحة الأحداث، وهو لن يقبل بدور شاهد الزور، وهو لن يقبل بأقل من الحقيقة الكاملة، وإلاّ فإن الرئيس التركي يكون قد أدخل نفسه وبلاده في مرحلة غامضة ومجهولة التوقع.
على كل حال تركيا بلد كبير وهام لنا ولكل المنطقة، وما يهمنا قبل كل شيء أن لا تدخل تركيا في متاهات جديدة لأنه بات يكفيها المتاهة التي كانت تعيشها حتى الآن، نحن لا نتمنى للأتراك سوى السوية والعافية والازدهار.

(الأيام)

السابق
بالصوت.. عقصة لـ«حزب الله»: الي بيتو من ازاز مش من حقه يستنكر
التالي
المس بمشاعري