العطش السنيّ

لم يكن الانقلاب حدثًا عابرًا خارج المتحركات السياسية والعسكرية على مستوى المنطقة والعالم، فهو تزامن مع مخاض تركي شديد الدقة والحساسية. أراد إردوغان أن يُعيد تصفير مشاكله مع الكوكب، أطلق مصالحة شاملة مع اسرائيل، وأتبعها باعتذارٍ مؤلم طلبه القيصر، ثم تدحرج الحديث إلى انفتاح جديد على النظام السوري والمصري، بالإضافة إلى مغازلة طهران وإعادة ترتيب العلاقة مع العراق. كان الأمر أشبه بتجرّع السمّ، لكنه يدرك بأن البديل لا يتجاوز حتمية الموت السريري.

درسَ الانقلابيون، ومن يقف خلفهم، هذه التطورات بعناية فائقة. آخر استطلاعات الرأي تحدثت عن تراجع ملحوظ في شعبية إردوغان إثر ما اتخذه من خطوات مفاجئة وغير مفهومة. راهنوا على اقتناص فرصة تاريخية، ضربوا ضربتهم المصحوبة بكل عناصر نجاحها، ثم ما لبثوا أن تفاجؤوا، وتفاجأ معهم العالم برمته. فردّة الفعل لم تكن متوقعة، وكذلك حجم التعاطف والتأييد الذي حازه الرجل، ليس داخل تركيا وحسب، بل على مستوى الكثرة الكاثرة من الشارع العربي والإسلامي.

إقرأ أيضاً: بالصور.. اللبنانيون شاركوا بـ«إسقاط الإنقلاب» في تركيا

كانت الفكرة قائمة على سيناريو مشابه لسقوط إخوان مصر، قالوا ما هي إلا ساعات ويصبح الرجل هاربًا يبحث عن لجوء يأويه وعائلته، أو سجينًا يرزح وكبار حزبه في أقبية العسكر. المفارقة تجسّدت في الثورة المضادة، وفي تدفق الناس إلى الشارع. فشل الانقلاب. استعاد الرجل أنفاسه، وخرج من المخاض منتصرًا ومزهوًا وجذابًا، والأهم من ذلك كله، شكّل الحدث مناسبة لتغطية التغييرات السياسية الشاملة، بحيث تحوّل إردوغان من براغماتي يخضع لرغبة إسرائيل في إدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة عبر معابرها، إلى أيقونة غير قابلة للمسّ أو الانتقاد.

يدرك إردوغان جيدًا بأن الفرصة باتت سانحة أمام قفزة رشيقة يُعيد عبرها الأمجاد الغابرة. هو بنى قصرًا خياليًا تجاوزت تكلفته نصف مليار دولار، وشرع في التحضير لتعديلات دستورية تعزّز موقعه وتطلق راحتيه، ثم جلس ينتظر زلزالًا يحمله إلى مقدمة الصفوف، وهذا تمامًا ما حدث لحظة فشل الانقلاب.

إقرأ أيضاً: الجزيرة تحصل على نسخة من مخطط الانقلاب في تركيا

في المقابل، ثمة عطشٌ سنيّ سحيق لزعامة مفقودة. الجميع يتحدث عن مؤمرات تقودها جُلّ دول الأرض للحؤول دون ذلك. هناك خشية من صعودنا وتكتلنا، العالم يخافنا، ويخاف ارتصافنا خلف شخصية تاريخية تعيدنا إلى مقدمة الركب والأمم. هذا لسان حالهم من اليمن إلى سوريا، مرورًا بفلسطين ولبنان والعراق. يبحثون جميعًا عن بصيص أمل يخوضون في ركابه لعبة القهر والقهر المضاد، فالمنطقة باتت ترزح برمتها فوق جبلٍ من الجثث والدماء، فيما لا تزال الحكاية في متنها الأول.

قبل الثورة الفلسطينية، كان العالم العربي والإسلامي يهرّول خلف التقاط صورة إلى جانب جمال عبد الناصر. بعدها، باتوا جميعًا ومعهم عبد الناصر يتسابقون نحو مصافحة ياسر عرفات. اليوم، وبعد فشل الإنقلاب العسكري في تركيا، سيزحف هذا الجمع الجائع بقده وقديده نحو سلطانٍ بات يضّج بكل مُقومات الجذب والزعامة والألق.

(بيروت اوبسرفر)

السابق
المانيا: مشاهد مقززة من التعسف والانتقام بعد محاولة الانقلاب في تركي
التالي
أردوغان الصدامي في ذهن الأعراب!