مئة عام من الضحك والحرية

منذ أعوام أنتظرها كل يوم جمعة صباحاً. اعتبرها مكافأة نهاية أسبوع من العبوس ومنتهى الجدية. انها متعتي الروحية، الحلوة، الخفيفة، و”المفيدة”؛ “مفيدة”، خصوصاً، لأنها مثل مدارس الأطفال المتطورة، تعلّمني أشياء كثيرة بابتسامة تكاد تكون متواصلة. انها مجلة “البطّة المقيّدة” الفرنسية، المعروفة باسم “لو كانار أنْشينيه”.
منذ أسبوع، احتفلت هذه المجلة بالذكرى المئوية لولادتها؛ فأصدرت بهذه المناسبة ملحقا خاصاً، يحتوي على كنوز تاريخية، فوجئتُ بها كما فوجئت بمئويتها. ربما لأنني بصفتي إبنة شرق أوسط متقلب وجامح، لم تكن مخيلتي تتحمل مئة عام لصحيفة واحدة على النغم نفسه. المهم، ان في هذا الملحق الخاص بياناً تأسيسياً، أود نقل مقتطفا منه، إذ يقول، بعد ان يصف نفسه بالجورنال الحيّ والحر والنزيه: “ان مجلتنا تتعهد بشرفها أن لا تنشر أي مقال ديبلوماسي أو إستراتيجي أو اقتصادي، مهما كانت اهميته (…)؛ إذ قررت إدارتها أن تنشر العدد الأكبر من الأخبار الكاذبة. فالجميع يعلم بأن الصحافة الفرنسية لا تقدم لقرائها، ومنذ بداية الحرب (العالمية الأولى)، إلا الأخبار الصحيحة تماماً. ولكن الجمهور ضجر منها. انه يريد أخباراً كاذبة. وسوف ينالها. ولكن “لوكانار أنشينيه” مجلة نزيهة. لذلك سوف تأخذ كل الإحتياطات اللازمة، لتنبيه قرائها إلى درجة المصداقية التي يجب ان يولونها لتلك المعلومات الواردة في مقالاتنا. وبغية ذلك، اعتمدنا طريقة بسيطة. فالأخبار غير الموثوق بها سوف تسبقها نجمة واحدة. الأخبار الكاذبة، ولكن الممكن حصولها، سوف تسبقها نجمتان. أما الأخبار الكاذبة تماما، فسوف نضع فوقها ثلاثة نجوم” (تموز يوليو 1916).
لا يمكن الإسترسال ببقية مواد الملحق، لشدة تنوع تواريخها وأساليبها ورسوماتها على امتداد مئة عام. ولكن للمتعة فقط، أتوقف عند الكاريكاتور الذي يصور الجنرال شارل ديغول، بعدما اطلقت عليه المجلة لقب “مون جنرال” (أي “جنرالي أنا”)، وهو معتمد وقفة الملك المطلق لويس الرابع عشر، بعصاه الذهبية ومعطفه المطرز بالأحجار الكريمة، وعقده الذهبي، بيده اليمني حاملة العصى الذهبية واليسرى على خصره، بالباروكة السوداء الطويلة الكثيفة المغطية لرأسه. وبالقرب منها مقال صغير، يقول انه بدءاً من العام 1960، كانت المجلة تروى حكايات “البلاط” الديغولي، بأبهته ورجالاته، وحقارات كباره وصغائر مملكته. وتحت المقال كاريكاتور للجنرال ديغول بحلّته المعروفة وهو يتساءل “ماذا يقول الطائر؟”.
وبمناسبة الكلام عن رؤساء الجمهوريات، أذكر، عندما فاز فرنسوا أولاند على نيكولا ساركوزي في انتخابات الرئاسية عام 2012، نشر بيان في المجلة، وقعه كتابها مع آخرين من صحف أخرى، يعلنون حزنهم وحدادهم على الكاريكاتور، لأنهم، بعد فوز اولاند، لن يكون المجال متاحا للضحك والرسم كما كان الحال في عهد ساركوزي. ولكن المجلة نفسها كتبت في عددها الأخير عن “حلاق الرئيس” بسخرية لاذعة على “شعيرات” الرئيس، وبسؤال “جدي” إن كان تمشيط هذه الشعيرات يستحق عشرة آلاف يورو شهريا، مع نوع من الاستعباد للحلاق، الذي يستنفر أربعا وعشرين على أربع وعشرين ساعة، من أجل ان لا تطير الواحدة منها خارج سربها…

إقرأ أيضاً: حرية التعبير
خلاصة الموضوع اننا هنا أمام حالة نادرة من حرية التعبير، لا تتوانى عن قرص الذين يريدون إسكاتها، ولا تملك أي إنحياز سياسي، أو فني أو أيديولوجي من النوع المعروف في فرنسا. إنما هي مجنّدة لكشف كل مستور، أحيانا بالوثائق غير القابلة للدحض، وأحيانا اخرى بالايحاء أو بنوعية “الأخبار” التي سبق وان قدمتها في بيانها الأول.
ولكن هذا البيان بالذات، يصعب تصور صدوره من بيئة نالت حريتها لتوها؛ إنما الأرجح انها نتاج حرية سابقة، عمرها مئة عام بل أكثر. انها نتاج مجتمع صاغ معاني حرية التعبير قبل ثورته، التي يمر عليها اليوم مئتان وثلاثة وعشرون عاما؛ تلك الثورة الفرنسية الكبرى التي سبقتها، أيضاً، كوْكبة من الفلاسفة والكتاب الأحرار، بعضهم ذاق الأمرَّين، وبعضهم منح ضوءه لحكام ركبوا، مع استبداديتهم، موجة “المفكرين المستنيرين”. ولا سبيل هنا، إلا لملاحظة تلك العلاقة الحميمة القائمة بين حرية متأصلة وبين الضحك.

إقرأ أيضاً: الحرب والحرية وأحلام العصافير
والقاعدة لا تستثني العالم العربي. انظر، مثلاً، إلى كوميديينا الكبار: عادل امام، ودريد لحام. كم كانت الضحكة سهلة معهم في شبابهم، وكيف فقدوا هذه المقدرة بعد تعايشهم الطويل مع استبداد بلادهم، كل على طريقته… كيف أصبحا ثقلاء الظل، ليس لأن عادل إمام أقام علاقة ممتازة مع أجهزة الدولة، قبل الثورة وبعدها؛ ولا لأن دريد لحام وقف إلى جانب بشار، في حربه على السوريين… ليس هذا فقط. إنما أيضاً لأن اصول التعايش مع أنماط ودرجات من التسلّط المجتمعي، الرسمي، الديني الخ، حرمتهم من ذاك المجال الحيوي الخاص الذي يفتقر إليه الضحك، إلى تلك المساحة التي تسمح للضحك بأن يفرد نفسه، يبسطها، يخترع هواءها. من دون هذا الهامش، أو الحيز، يموت الضحك، ليتحول إلى نكات جاهزة، معلبة، مكررة، تحتاج الى متهلّلين، ضاحكين سلفا، حفاظا على سماجة النكتة.

(المدن)

السابق
سراج الدين زريقات: العربية قناة الشر والفساد!
التالي
من يفكر بالانقلاب في لبنان؟