هكذا تستعدّ اسرائيل لحرب لبنان الثانية

تُعتبر “حرب لبنان الثانية” أصغر الحروب العربية الإسرائيلية، من حيث محدودية عديد القوى المتحاربة ووسائط القتال، وضيق جغرافية مسرح العمليات، إلا أن نتائجها تركت ندوباً في البنيان العسكري الإسرائيلي، وشكلت عملية كيّ لعقله الإستراتيجي، لا يزال يعاني آثارها حتى الآن.

وبرغم انقضاء عقد زمني على حدوثها، ما أنفك جيش العدو يعدّ الخطط، ويعدل المفاهيم، ويعقد المؤتمرات العامة وورش العمل المتخصّصة، ويطلق سيلاً لا ينضب من التدريبات والمناورات، بناءً على خلاصات تلك الحرب.

لا يجب أن ننسى أن هذه الحرب أطاحت رئيس حكومة العدو إيهود أولمرت ووزير دفاعه عمير بيرتس، ورئيس أركانه الجنرال دان حلوتس، وأفضت إلى إنشاء لجنة تحقيق عليا (فينوغراد)، أصدرت تقريرَين ينضح مضمونهما إقراراً بالهزيمة والفشل والإخفاق، وهي مفرداتُ تكرّرت 57 مرّة في التقرير الأولي فقط. وقد أوصت، بإعادة النظر بهيكلية الجيش الاسرائيلي وطرائق التفكير والمفاهيم وأساليب القتال والخطط العملانية… أما على المقلبَين اللبناني والعربي، فسرعان ما خبا وهج تلك الحرب، تحت ركام انقسامات المذاهب واصطفافات المحاور الإقليمية. وباستثناء أهل المقاومة وجمهورها، لم تحظَ حرب تموز بحقّها من الاهتمام والتقدير.

على وقع دروس “حرب لبنان الثانية”، وجولات العدوان اللاحقة على قطاع غزة، التي ارتقى آخرها، العام 2014، إلى مرتبة الحرب، معطوفاً عليها تداعيات “الربيع العربي”، أصدر الجيش الإسرائيلي “وثيقة جدعون” (13 آب 2015) لتشكل إستراتيجيته في الأعوام المقبلة. وفي سابقة لم تشهدها إسرائيل، خرجت الوثيقة إلى العلن، قبل إقرارها رسمياً من حكومة بنيامين نتنياهو. وبرّر الجنرال مايكل هيرتسوغ هذا الإجراء، “بدافع الرغبة في صقل النقاش العام، بشأن تحديد أولويات الموارد الوطنية، ونقله من البحث في تقنيات الميزانية إلى مناقشة الإستراتيجية الأمنية المطلوبة”.

تُبرز “وثيقة جدعون” متغيرات المشهد الإستراتيجي الإقليمي والإسرائيلي، وتركز على المندرجات الأساسية الآتية:

أولا، التهديدات المعادية: تم حصرها بإيران (دولة بعيدة)، ولبنان (دولة قريبة)، وسورية ـ بحسب الوثيقة ـ دولة آيلة إلى التفكك. إضافة إلى تهديد المنظمات المسلحة غير الدولتية (حركات المقاومة) مثل “حزب الله” وحركة “حماس”، بحيث باتت ـ المنظمات ـ التهديد الرئيسي لإسرائيل، بعدما حلّت مكان جيوش دول الطوق التي تلاشى خطرها إلى الحدود الدنيا. أما حركات ما يُعرف بـ “الجهاد العالمي”، فلا تشكل خطراً في المدى المنظور. وقد تمنى نتنياهو ورئيس شعبة «أمان» الجنرال هرتسي هاليفي انتصار “داعش” ومثيلاتها على الجيش السوري، لإضعاف محور المقاومة.

ثانيا، الجبهة الداخلية: كما كانت خلال حروب العقد الماضي، لا تزال بمثابة كعب أخيل الدولة العبرية. ومنذ تبيان جدوى التركيز عليها، بخاصة بعد تجربتَي حرب تموز 2006 وعملية الجرف الصامد 2014، تعمل حركتا المقاومة في لبنان وقطاع غزّة، بدأبٍ، على تطوير أذرعتهما الصاروخية، حتى يكون بمقدورهما قصف أي هدف على الخارطة الفلسطينية، وهما تطمحان لتكوين توازن “نسبي” قبالة ذراع الجوّ الإسرائيلية.

وتتحدّث الوثيقة عن “تزايد حجم التهديد الصاروخي وسرعته ومداه ودقّته وحمولته وإمكانية تواصله باستمرار”، وتركز على “خطر ترسانة حزب الله، التي تحوي ما يفوق 100 ألف صاروخ، وقدرته على إطلاق أكثر من 1500 صاروخ يومياً لمدّة أسابيع”. وتُظهر عملية حسابية بسيطة، أن قدرات المقاومة اللبنانية تضاعفت، كمّاً ونوعاً، أكثر من عشر مرّات، منذ “حرب لبنان الثانية”.

حرب تموز

تجد الوثيقة في التطوير النشط لنظام الدفاع المتعدّد الطبقات، السلاح الأنجع لمواجهة تهديد الصواريخ المنحنية، في أي حرب مقبلة. إضافةً إلى تركيز سلاح الجوّ على منصات الصواريخ المتوسطة والبعيدة المدى، وإدراجها كأولوية في بنك أهدافه. وكذلك، تسريع العمليات البرّية، تفادياً لما حصل في الحرب السابقة، حين أدّت صواريخ المقاومة إلى شلّ الاقتصاد والمرافق العامّة، وأجبرت أكثر من مليون مستوطن على النزوح أو الاختباء في الملاجئ.

ثالثا، التأكيد على تفعيل ثنائية العصف النارّي والمناورة الهجومية، ما يعني إطلاق يد ذراع البرّ الإسرائيلية فور اشتعال النزاع، لكي لا تكرّر أخطاء صيف تمّوز، حين اختلّ التوازن لمصلحة الضربات الجويّة (نحو 17000 غارة) على حساب العمل البرّي الواسع. وذلك، نتيجة المفاهيم السائدة، آنذاك، بين مراتب القيادتَين السياسية والعسكرية الإسرائيلية، بأنه يمكن كسب الحرب وتدمير الخصم، بواسطة النيران عن بُعد. وتحدّد الوثيقة آلية عمل هذه الثنائية، بحيث “ينبغي على قوّة النيران والمناورة البرية أن تعزّز الواحدة منهما الأخرى، ما يخلق تأثيرات تآزرية متبادلة”. كما تحثّ على تضمين الجهد البرّي، عمليات فجائية “قوات خاصّة، إنزالات” تستهدف الخطوط الخلفية للخصم، حيث مراكز الثقل الإستراتيجي والعملياتي.

إن فكرة العودة إلى مفهوم جيش المناورة ليست جديدة، فقد لحظتها كلّ من خطة (تيفن) العام 2008، و(عوز) 2013. ولكي لا يظنّ بعضهم، أن الإسرائيلي خسر الحرب لمجرد تبنّيه مفهوماً خاطئاً، فالمقاومة إبّان حرب تموز، كانت تفضل زجّ قواته البرية خلال الأيام الأولى، من بدء المعركة. وذلك، لتخفيف ضغط كثافة النيران الجويّة، وتوفير الفرصة لاصطياد أكبر عدد ممكن من مدرعاته وآلياته، بواسطة الصواريخ الموجّهة المتطورة.

تراوح خيارت الجيش الإسرائيلي، بحسب “وثيقة جدعون”، للتعامل مع أي مستجدّ ميداني، ما بين الضربات المحدودة ضدّ أهداف حيوية للخصم (الحملة بين الحروب) وصولاً إلى الحرب الشاملة، بقصد الحسم الكلّي. ومفاهيم الحسم والإنذار المبكّر والردع من الركائز التقليدية لإستراتيجية العدو العسكرية. وقد اضافت “وثيقة جدعون” إليها، حروباً افتراضية لصيقة بالنزاع المسلّح، كالحرب الإلكترونية (السايبر) التي شكلّت تحدّياً جديداً أمام الجيش الإسرائيلي، لمنع القراصنة (الهاكرز) من اختراق شبكاته المعلوماتية، والقطاعات الاقتصادية والمرافق العامّة، والحسابات المصرفية… وقد شهدت “حرب لبنان الثانية” فصولاً من حرب العقول الإلكترونية، المرشّحة للاتسّاع في نزاعات المستقبل.

تُظهر خلفية مندرجات وثيقة جدعون، ظلال “حرب لبنان الثانية” التي لا تزال مفاعيلها حاضرة بقوّة في العقل الجمعي الإسرائيلي، وتتحكّم بالكثير من خطواته العملانية وخططه المستقبلية. أمّا عن مدى نجاعة الوثيقة في الإجابة عن اسئلة الحاضر وتحدّيات المستقبل، فهذا رهنٌ باختبارات الميدان أولاً وأخيراً.

(السفير)

السابق
ايرلوت التقى حزب الله وغادر… والوضع المالي ليس مأساويا
التالي
بالصوت.. عقصة لـ«المجتمع»: لو كان الموضوع بخص بنتكم كنتوا سكتوا