تموز 2006: آخر حروبنا العمومية

كانت حرب تموز (يوليو) عام 2006 آخر حروبنا، ولم تكن الأخيرة لـ «حزب الله». نون الجماعة في حروبنا هي للقول إنه عندما يتعلق الأمر بالصراع ضد إسرائيل، فإن الحرب تكون جمعية، ولا يقلِّل من جمعيتها قيام طرف لبناني بها، أو تحالف عدد من الأطراف اللبنانية، وغير اللبنانية، فلسطينية كانت أم سورية. هكذا كان الأمر عندما حدث التداخل بين المسألتين الفلسطينية واللبنانية حتى خروج قوات منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت عام 1982، وهكذا استمرت الموضوعة الجمعية على ما هي عليه حتى تحرير المناطق اللبنانية من الاحتلال عام 2000. ما تلى ذلك لم يتجاوز التداعيات المترتبة على عدم إنجاز التحرير في السياسة، ذلك أن الراعي السوري وحلفاءه، ولأسباب سياسية خالصة، مدَّدوا للتحرير قتالياً، لأن إنجاز التحرير السياسي، وفق الروزنامة الإقليمية والمحلية، لم تكن ساعته قد أزفت بعد. لكن كل ذلك لا يجيز القول إن التداعيات لم تكن لبنانية بعامة، وبهذا المعنى ظل القتال ضد إسرائيل، ومن الضروري أن يظل، شأناً لبنانياً عاماً، يساهم فيه البعض ميدانياً، ويشارك فيه البعض الآخر سياسياً واجتماعياً وإعلامياً…، ومن المساهمات المشتركة يبتكر اللبنانيون مسؤولية عامة عن الوضع الوطني الشامل، لأنهم يريدون لاحقاً النقاش في حصتهم من الإنجاز المتحقق، والتوقف أمام الثمن الذي دفعوه، والتدقيق في معادلة الربح والخسارة الخاصة بكل طرف، وتلك التي لحقت بالوضعية اللبنانية العامة.

اقرأ أيضاً: عقد على حرب تموز..اين اصبحت المقاومة ووجهتها؟

هذا التقدير اللبناني للأمور، هو الذي يجعل كل حرب حرباً عمومية، ويحيل المسؤولية عنها، في البداية والختام وما بعد الختام، إلى شأن عمومي أيضاً. تكمل فكرة إعادة تسمية «المقاومة» فكرة المسؤولية الوطنية اللبنانية، فما يعيشه اللبنانيون منذ عقود، هو بعض من تداعيات الصراع العربي – الإسرائيلي، لذلك فإن تعريف خطر ارتدادات المشروع الصهيوني الأصلي كخطر على لبنان أيضاً، يجعل من التصدي لهذا الخطر مهمة وطنية عامة، ومساهمة عربية في إطار الصراع، عندما يقرر العرب أنهم ما زالوا في دائرة القيام بمهماتهم الصراعية.
بين اللبنانية التي تجد عموميتها في المعادلة الصراعية، محلياً وعربياً، وبين اللبنانية التي تفترض أنها باتت غير معنية باختراع معادلات بديلة، يقوم سوء تفاهم سياسي واسع، ويترجم ذلك بممارسات سياسية تختزن الخصومة الأهلية، وتجدد أساليب المواجهة في ميدانها. من واقع الحال، أن معادلة الحرب في سورية، وفي عدد من الأقطار العربية، قد أعطت الأمر لمعادلة الصراع ضد إسرائيل بالجلاء عن ميادين البلاد المستهدفة بالتعريفات الجديدة. لقد ذهبت فلسطين إلى ذلك رغماً عن إرادتها، ومعها ذهبت منظومة الأفكار والقوى والشعارات التي جعلتها قضية العرب المركزية. الحال، أنه لم تعد للعرب قضية مركزية، والواقع أن العرب فقدوا حتى لغتهم الجمعية، والناطقون بين ظهرانيهم هم أصحاب القضايا الفرعية، الدينية والمذهبية. معطى الافتراق سرى مثل قرع طبول صاخب، فاستبدلت مادة الصراع لتصير «الإرهاب» وتبدلت الصفوف فصارت شيعاً ومِللاً ونحلاً، وتغيرت اللغة فتوارت مفردات الحرية والتقدم والتحرر والحضارة والوحدة، وما بات في صدارة المشهد تناسل كلام عتيق من كلام أعتق، وما ساد الفضاء العربي العام، رياح السموم الإقصائية والإلغائية، وما احتل الميادين، حروب التجزئة والتصنيف التي تريد «تصحيح» التاريخ الذي انقضى على انسيابه ما يربو على الألف من الأعوام.

حرب تموز بنت جبيل
الذي تقدم ذكره فقد انتماءه إلى نسخة متصلة بما كان للعروبة من معاني في أذهان القائلين بها، وفي ممارسة الساعين إليها، على رغم ضحالة النتائج. وما تقدم فقد أيضاً انتماءه الوطني الداخلي، لأنه يقوم على قضية خاصة لصيقة بطرح مذهبي، أو حتى بتطلع عرقي، لذلك فإن فقدان المناعة الوطنية لأية سياسة من السياسات، هو السبيل الأقصر إلى التوجس منها والابتعاد عنها، ثم مخاصمتها ومناصبتها العداء. فقدان القضايا «لعربيتها»، يشكل إصابة بالغة «للعمومية» العربية، وتخلي القضايا ذاتها عن وطنيتها المحلية، هو بمثابة سهم مسموم في جسد العمومية الجمعية الوطنية، أما الخلاصة العامة فهي نفض اليد من القضايا، لأنها لم تعد تحيل إلى معناها الجامع، وأما السلوك العام، فهو التصدي لفئوية القضايا إذا ما انتقلت من التجاوز على العمومية، إلى القتال باسمها في ديارها وخارج ما يحيط بها من ديار.
وفقاً لما تقدم، لقد انتهت عمومية اللبنانيين القتالية عام 2006، أما عموميتهم الصراعية، أي الانتساب إلى مسألة الصراع العربي – الإسرائيلي، فإن أطرافها يقاتلون لكي يكون الانتساب إليها حراً واختيارياً وغير مفروض وفق مفهوم محدد لطرف من الأطراف.
ماذا بقي بعد زوال العمومية؟ بقيت حروب الآخرين المحليين من أجل آخرين غير محليين، وبقيت محاولة الحريصين على اتقاء لهيب حروب الآخرين، فلا يشتعل السهل اللبناني العالي الهشيم. وبعد ذلك، يجهر صف واسع من اللبنانيين بالقول: ما يدور في سورية والعراق واليمن وليبيا… ليس في عداد حروبنا، ونحن من إنجازاتها أو إخفاقاتها براء… ويظل السؤال: ماذا عن سلام وسلامة عموميتنا اللبنانية؟! هو سؤال برسم حروب الآخرين على أرضنا، وخارج هذه الأرض.

(الحياة)

السابق
ميريام كلينك تتباهى …بالبوتوكس!
التالي
بريطانيا ترتب عودة إيران إلى دائرة الاقتصاد العالمي