وباء العصبية

هاني فحص

إن استقبال الأمس هو استدبار للغد.
أمام حالة الحصار والضغط اليومي على العصب العربي والإسلامي، والانفجارات العشوائية المتنقلة، يبحث الجميع، ومنهم الحركات والأحزاب التي تنتج الأزمات وتتأثر بها، عن مرجعية تسوّغ لهم تناقضاتهم، فلا يجدون إلا الماضي الذي يحتاج إلى عقل مستقبلي نقدي، كي يفرز عناصره الحية عن عناصره الميتة والمفتعلة. إلا أنهم يعالجونه برغبة متعاظمة في إماتة الحيّ منه وإحياء الميت، وتأصيل الطارئ أو المفتعل، بما يُشعر بأن الإفلاس في إنجاز الراهن على طريق الآتي سوف يؤدي، إن لم يكن قد أدّى فعلاً، إلى استضبار المستقبل واستقبال الماضي قتلاً للماضي وللمستقبل بالماضي.

اقرأ أيضاً: لتشكيل ورش للمصالحة بين المواطنين

ومن هنا، لعل مؤشرات الانقسام والصراع تنتقل من فضائها الإسلامي – المسيحي إلى الفضاء الإسلامي، ويستشري الانقسام الشيعي – السنّي، ولكن من دون أن يؤدي إلى التئام سنّي – سنّي، أو شيعيّ – شيعيّ، إلا في مرحلة متقدمة من الصراع، وبعد خراب البصرة. أي عندما لا يبقى خيار للشيعيّ إلا أن يكون شيعياً على موجبات العصبية ومقتضيات القطيعة، وكذلك السنّي. وحينئذ يصبح لدينا فسطاطان أو داران للحرب، على غير ما رسم العبقري بن لادن في فسطاطيه التقليديين، ومن دون فرق بين بلد وبلد أو بين مجتمع وسلطة أو نظام. لأن إدامة السلطة تلزم أهلها اللحاق بالجماعة، وتماسك الجماعة يلزم أهلها الالتحاق بالسلطة، فيما تتصارع الجماعات على السلطة، حذراً من غلبة الجماعة الأخرى أو السلطة الأخرى.

السنة والشيعة
هنا تبدأ مساحة التوسط والاعتدال بالضيق في وتيرة متسارعة. وقد ينتهي الأمر بذوبان أهل الاعتدال في إناء العصبية والتطرّف. ومن الممكن أن تبقى مساحة ضيقة جداً لحفنة من أهل الاعتدال من الذين لا يرون حيزاً ضامناً لاعتدالهم، إلا أن يتنصلوا من جماعتهم المذهبية. وهنا يصبحون عرضة للون آخر من التطرف العلماني أو الليبرالي ضد جماعتهم والجماعات الأخرى معاً.
إن تهميش المسيحيين في لبنان مثلاً، ولأسباب داخلية مسيحية ولأسباب غير مسيحية، يصب في هذه الطاحونة. ومن هنا نلاحظ أن هناك مساعي لدى أطراف متعارضة إلى صنع تسوية في لبنان تقوم على أساس ثنائية الشيعة والسنّة، ما يعني تأسيس الصراع في لبنان على هذه الثنائية، من ضمن مسعى يشارك فيه الجميع من دون استثناء محلي أو إقليمي أو دولي، بهدف جعل هذه الثنائية القائمة على أساس الصراع رافعة – خافضة لمستقبل المنطقة، التي تتميز جغرافياً وديموغرافياً واقتصادياً بكل ما يجعل هذا الاحتمال قوياً.

اقرأ أيضاً: الشيعة يتماسكون سلباً

لا بد من مشروع جاد وصبور لتنشيط الجسم الإسلامي الشيعي من أجل إنتاج المضادات الحيوية للعلاج والوقاية من تحول العصبية إلى وباء، آملين في أن يكون ذلك مشجعاً للسنّة على اللقاء مع الشيعة في منتصف الدين أو الطريق أو الوطن، من خلال إنتاج معرفة مشتركة للسنّة سنّياً، ومعرفة مشتركة للشيعة شيعياً، بهدف اكتساب مصداقية وأهلية للشراكة في إنتاج معرفة بالإسلام وبالمسيحية. علّنا نحفظ الجميع بالجميع، حتى لا يقع لبنان على رأس الجميع ويصبح مثالاً يُحتذى للفتنة، بعدما شارف بعد الطائف على أن يقدم درساً في الائتلاف على اختلاف بعد الخلاف.

(من كتاب على مسؤوليتي – منشورات صوت لبنان)

السابق
حركتا المجاهدين والأحرار ترفضان تصريحات تركي الفيصل التي تستهدف المقاومة
التالي
إيران النووية أم إيران الإرهابية؟