حرب الذات والآخر

عقلية ونوعية تنظيم «داعش» وإرهابه المتميز بأيديولوجية إسلامية متطرفة تتحدى الإسلام المعتدل الرحب المتطور المتقبل للعلم والتجدد، تتطلب اليوم اختراقاً خارقاً للعادة بأدوات غير مسبوقة تمتد من التعليم الابتدائي إلى السياسات المصيرية للدول، الكبرى منها والصغرى، وفي الإقليم وخارجه. فلا أحد بريئاً من صنع هذه الظاهرة المدمِّرة والآفة النامية، والكل مسؤول عن إيقافها وإيقاف جميع أنواع التطرف العقائدي الأخرى، المسيحية واليهودية والشيعية والعلمانية على السواء.

 

المسؤولية الأولى إسلامية سُنيّة لأن تنظيم «داعش» وشبكة «القاعدة» وأمثالهما هم أبناء تفسير متحجِّر للإسلام. المسؤولية أيضاً عربية لأن معظم المنتمين إلى هذه الحركات الجهادية والتدميرية عرب من المشرق والمغرب والخليج. إنما هناك «الآخر». من هو ذلك الآخر الذي لعب دوراً تأسيسيّاً وبات شريكاً مساهماً في شركة إنتاج «الداعشية» وأمثالها؟ لا أحد بريئاً، والجميع هم «الآخر».

 

صنع الأصولية السنيّة في أفغانستان بشراكة غربية – إسلامية ولّد «القاعدة» وأسفر عن إسقاط الاتحاد السوفياتي، فكانت تلك محطة الانتقام الأميركي من عقدة فيتنام. الأصولية الشيعية وصلت الحكم في طهران بشراكة أوروبية – أميركية وكانت هذه الشراكة قبل عقود صنعت الأصولية اليهودية التي أوصلت إسرائيل اليوم إلى التباهي بإنشاء المستوطنات غير القانونية ورفض إنهاء الاحتلال ومعه رفض حل الدولتين. ومع صدور تقرير رئيس لجنة التحقيق البريطاني في شأن حرب العراق السير جون تشيلكوت، بات واضحاً أن الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش ورئيس الحكومة البريطانية السابق توني بلير بيتا النية لغزو العراق فور وقوع هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 في الولايات المتحدة، وأن «أخطاء» تسريح الجيش العراقي و «اجتثاث البعث» كانت مساهماً مباشراً وتأسيسياً في صنع «داعش». ثم أتت حرب سورية ووجدت روسيا نفسها قادرة على الانتقام من عقدة أفغانستان فجعلت من سورية ساحة لاستدعاء الإرهابيين كما فعل بوش في العراق، ظنّاً منها أن ذلك يبعد الإرهاب من مدنها. لكن روسيا تورطت كطرف في الحرب السورية المستمرة وهي الآن في شراكة مع أميركا تنطوي على هندسة الفصائل والميليشيات على نسق من منها المؤهل لقتال «داعش»، والصفقة بينهما هشّة لأن سياساتهما هي التي أسهمت في إنماء هذه التنظيمات. فلا أحد بريئاً من إنشاء تلك الشركة المساهمة المدعوّة «داعش»، وللكل أسهم فيها.

 

المعضلة الكبرى هي أن تنظيم «داعش» يبدو واعياً لمواقع الهشاشة في كل من مالكي الأسهم وكذلك أولئك الذين يتعجرفون غباءً ويفتحون الباب أمام مغامراته على نسق ما يحدث في الانتخابات الرئاسية الأميركية

 

«داعش» قد يقرر أن يصبح أهم ناخب أميركي إذا تمكّن من تنفيذ عملية إرهابية كبرى قبل إجراء الانتخابات في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل. مثل هذا «التصويت» سيكون لمصلحة المرشح الجمهوري المفترض دونالد ترامب الذي يلعب على الأوتار العاطفية للشعب الأميركي، ويتعهد إقصاء المسلمين، ويتوعّد بإجراءات خيالية.

 

«داعش» يريد دونالد ترامب رئيساً لأنه يتشوق لأن يكون عدوّاً مباشراً للولايات المتحدة، فهذا يرقى به ويرفع من شأنه. ثم إن اعتباطية ترامب وإقصاءه المسلمين يشكلان مواد تعبئة يحتاج إليها التنظيم ليس داخل المدن الأميركية فحسب، بل في شتى أنحاء العالم.

 

هذا لا يعني أن «داعش» لن يستدرج المرشحة الديموقراطية المفترضة هيلاري كلينتون إلى المبارزة معه، فهو يتشوّق في كل الأحوال لأن يصبح عدوّاً رسمياً للولايات المتحدة. الفارق أن كلينتون ستكون من الصقور في السياسة الخارجية الأميركية، وستقوم ببناء الشراكات الجديدة وإحياء الشراكات القديمة، من أجل مقاربة جديدة ضد «داعش» وأمثاله. فالتنظيم لا يستفيد من مقاربة شاملة مدروسة وعالمية. إنه يفضّل الاعتباطية.

 

اليوم، وبعدما قرر مكتب التحقيق الفيديرالي FBI ودعمته بذلك وزارة العدل – إعفاء كلينتون من الملاحقة القضائية ضدها في قضية بريدها الإلكتروني الخاص لتتوجه إلى المؤتمر الديموقراطي هذا الشهر، متحررة من عبء المحاكمة، بات ترشيح الحزب الديموقراطي لكلينتون مضموناً تقريباً. فقرار مكتب التحقيق الفيديرالي نسف حظوظ المرشح الآخر بيرني ساندرز الذي بقي في السباق حتى الآن، آملاً بأن يؤدي التحقيق إلى عكس ما توصل إليه – فيكون جاهزاً ليحصل على الترشيح الديموقراطي.

 

على أن هناك بعداً آخر لما قد يؤدي إليه تقرير مدير مكتب التحقيقات جيمس كومي الذي قدّم إدانة تلو الأخرى لكلينتون عبر تعرية مزاعمها وتكذيب أقوالها وكشف «إهمالها» الذي كان «كبيراً جداً» بإرسالها 110 رسائل إلكترونية «سرية» عبر بريدها الخاص بدل البريد الرسمي، بما في ذلك من مواقع «غير صديقة» مما قد يعرّض الأمن القومي لخرق من قبل أجهزة أجنبية.

 

هذه مواد حارقة في أيادي الحزب الجمهوري الذي لا يريد أن تصبح كلينتون رئيسةً. أركان هذا الحزب التقليديون غاضبون جداً من ترامب وبهلوانيته وبعضهم كان قرر أنه لن يدعمه للترشيح الجمهوري، مهما كان. إنما مع اقتراب المؤتمرين الجمهوري والديموقراطي هذا الشهر، وعلى بعد خمسة أشهر من التصويت، قد يجد الجمهوريون في أقوال كومي ذخيرة لا يُفرّط بها لمنع كلينتون آخر من الوصول إلى البيت الأبيض.

 

لكن أياً كان الرئيس الأميركي المقبل، فإنه سيكون أمام مهمة صعبة مع تصاعد وتوسع قدرات ومغامرات «داعش». وما قد يطرأ على الساحة الأميركية من إرهاب، قد يكون «داعش» في صدد إعداده، سيؤثر في نتيجة الانتخابات الرئاسية الأميركية. أما السياسات المقبلة للولايات المتحدة نحو مختلف الدول في العالم فهي التي ستحدد في شكل جذري ما هو مستقبل «داعش» وأمثاله – وإن لم تكن وحدها من سيحدد ذلك المستقبل.

 

فحرب العراق، كما أثبت تقرير تشيلكوت، أسهم في إعدادها واختراع مبرراتها مهرّج البلاط توني بلير الذي قد يواجه تهمة ارتكاب «جريمة حرب»، وقد يُجرَّد من لقبه كرئيس حكومة سابق، وليس من أمواله التي جمعها من المنطقة كرئيس شركة استشارات مستخدماً منصباً لم يستحقه إطلاقاً – كما أثبت لاحقاً – هو المبعوث الدولي لـ «اللجنة الرباعية» المعنية بإيجاد حل للنزاع الفلسطيني – الإسرائيلي.

 

بلير أساء إلى العراق بقدر ما أساء إليه جورج دبليو بوش وطاقمه المؤلف من ديك تشيني ودونالد رامسفيلد وتوابعهما. ففور وقوع إرهاب 11/9 بدأ هذا الفريق بالإعداد للحرب على العراق وبدأ تغليف المبررات ذات العلاقة بأسلحة الدمار الشامل التي كانت الأمم المتحدة قد نجحت في تدميرها. بلير قدم الأدلة الملفّقة عن أسلحة الدمار الشامل. بول ولفووتز – العراب الديبلوماسي للحرب – اخترع فكرة حرب العراق من أجل الديموقراطية في العالم العربي. وهكذا اتُخذ قرار تدمير العراق عمداً بذريعة واهية، ثم عدم الاعتذار عن التخلص من الديكتاتور صدام حسين، ثم إعلان بوش أن الهدف كان إبعاد الحرب على الإرهاب من المدن الأميركية عبر محاربته في العراق.

 

 

يقال إن تفكيك الجيش العراقي كان خطأ ولم يكن قراراً استراتيجياً. هذا هراء. لقد تم اتخاذ قرار تفكيك الجيش العراقي خدمة لكل من إسرائيل وإيران اللتين اعتبرتا الجيش العراقي عدواً يجب تدميره. لم يكن قرار تفكيك الجيش خطأ. كان قراراً استراتيجياً بامتياز. هراء أن يقال إنه لم يخطر على بال منفذي ذلك القرار أن مثل هذا الإجراء سيولّد مجموعات انتقامية، وأن استدعاء الإرهابيين إلى العراق سيجعل من العراق تربة للإرهاب. ففي الأمر أكثر من شك وريبة.

 

ظهور «داعش» في العراق في معركة الموصل وكيفية انتصاره مع انسحاب مريب للجيش العراقي في عهد رئيس الحكومة السابق الموالي لطهران نوري المالكي، يثير أيضاً الشكوك والريبة. تسريح الرئيس السوري بشار الأسد أولئك الإرهابيين الذين استخدمهم في العراق ثم سجنهم في سورية، أيضاً يثير الشك والريبة. فالأسد، بدعم من طهران وموسكو، قرر أن يحوّل الحرب في سورية من حرب ضده إلى حرب على الإرهاب، فكان لا بد من تقديم الذخيرة. وهكذا برز المحور الذي ضم روسيا وإيران و «حزب الله» وشتى الميليشيات المستوردة والنظام في دمشق إلى محور ضد «داعش» و «جبهة النصرة». وأتى امتناع الرئيس الأميركي باراك أوباما عن الانخراط كمساهم آخر في إنماء هذه التنظيمات.

 

لا أحد بريئاً مما حدث في سورية من إنماء للإرهاب، فالكل شارك في أفغنة سورية بقرارات مسبقة. وبعضهم اعتقد بأن الأفضل له أن تنحصر تلك الحرب في سورية كي لا تطاوله في عقر داره. والجميع أخطأ الحساب لأن «داعش» وأمثاله بات غولاً أكبر فرّخ في كل أنحاء المنطقة والعالم.

 

العمليات الإرهابية التي شنها التنظيم وحاول تنفيذها توسعت في أميركا وأوروبا وتركيا وبنغلادش والسعودية والكويت، والآتي قد يكون أعظم وقد يطاول روسيا والجمهوريات الإسلامية في جوارها ودولاً عربية أخرى ولربما أيضاً إيران.

 

واضح أن السياسات الخطأ تغذي هذا الوحش الذي تم اختراعه وصنعه وإنماؤه. تدمير الجيوش أفسح في المجال أمام «داعش»، ومحاربته عبر الميليشيات المستوردة أو المحلية في سورية أو العراق قد تؤدي إلى كسب معركة هنا أو هناك، لكنه لن يؤدي إلى ربح الحرب. فإذا غادرت كوادر «داعش» العراق أو سورية موقتاً ومرحلياً، فإنها ستنمو في تونس والمغرب والدول الخليجية والجمهوريات الإسلامية والشيشان، وستنفذ أينما كان.

اقرأ ايضًا: العدوانية… ثمرة الحرمان وثقافة التحريم

لن يكفي حوار الأديان والمذاهب، ولا إنشاء مراكز لمحاربة الإرهاب، على رغم أهمية وضرورة الاستمرار في هذا النهج الذي تعمّد «داعش» تحديه وضربه لإيقافه. هناك حاجة إلى تفكير مختلف يتعدى التعاون الاستخباراتي والتكنولوجي، ولعل هناك مجالاً لتطوير دور التكنولوجيا في مكافحة الإرهاب الذي يستخدم التكنولوجيا بلا قيود أو حدود.

 

الدول الخليجية التي تتعرض للإرهاب حالياً تدرك الآن أن تنظيمات مثل «داعش» وأخرى ذات علاقة بالأصولية الشيعية باتت قادرة على أن تخترق الساحة الخليجية وتؤذيها.

 

الحكومات تتأهب أمنياً، لكن المطلوب أيضاً هو مواجهة تيارات التشدد وذوي عقيدة «النار بالنار» وقطع الطريق على فكرهم وعلى مساهمتهم في دعم التيارات والتنظيمات الراديكالية المتطرفة. هناك حاجة إلى الإقرار بأن الوقت حان لإجراءات فعلية في مجال التعليم وتقاليد المدرسة كي يكون فيها الإسلام الرحب المتطور والمتقبل للعالم هو الذي يتم تدريسه. فالمعركة مصيرية بين الإسلام الحديث وبين إسلام يتم تفسيره من قِبَل عقائديين متشددين يمتلكون قبضة التفسير التحريضي. المطلوب عدم غض النظر عن القوى الدينية المتسلطة بتمكين حكومي لها لتستبد وتردع وتغذي الكوادر التي تلتحق بـ «داعش» وتمول هذه التنظيمات.

 

فهذه حرب الذات. هذه آفة ليست فقط نتيجة سياسات الآخر، وإنما أيضاً نتيجة عقلية أصولية محلية بامتياز.

(الحياة)

السابق
أسرار الصحف المحلية الصادرة يوم السبت في 9 تموز 2016
التالي
اهالي برج البراجنة حذروا من التصعيد في حال استمر انقطاع المياه عن المنطقة