إدارة التوحش:داعش نموذجاً

لعل أخطر ما في العمليات التي نفذها الارهابيون في الآونة الاخيرة انها تقع خارج سياق اي منطق او تحليل سياسي، وليس لها رابط عسكري او امني. هي مجرد ضربات عشوائية يصعب فهمها ويستحيل الاشتباه بأن أوامرها صادرة من غرفة عمليات، او من خلية أزمة، او من مركز ما، كما كان عليه الحال في الحقبة الاولى من تجربة تنظيم القاعدة.
نسبة هذه العمليات الى تنظيم”داعش” تحتمل الكثير من المبالغة، بل وحتى الكثير من سوء  التقدير. الاسم بات مغريا لتُسند إليه اي عملية ارهابية، لكن التسرع والاستسهال في تحميله المسؤولية، هو ما يرفع من مرتبة التنظيم ومهابته وسمعته العالمية، التي ثبت في اكثر من حالة انها مفتعلة من قبل أجهزة الامن والاعلام ومن قبل المؤسسات السياسية التي تتقن في العادة تسليط الضوء على عدو خيالي، من أجل صرف الانظار عن الاعداء الحقيقيين والجديين.

ليس داعش تنظيما خيالياً، لكن المؤكد انه ليس اسطورة. الدول والاجهزة المهتمة بمطاردته تعرف أدق التفاصيل عن تشكيله الداخلي وعن تسليحه وتمويله وعن عديده الآتي من مختلف الجنسيات، وعن وسائل اتصالاته وإعلامه العلنية تقريباً، بل وحتى عن مساكن قادته ومخابئهم. وهي تعرف ايضا عناصر قوته الفعلية المتمثلة بحشد لم يسبق له مثيل في التاريخ من الانتحاريين، يستطيع ان يرعب اقوى جيوش العالم ويضطرها الى الفرار وترك اسلحتها وذخائرها.

الثابت ان التنظيم في حالة تراجع وانكفاء امام الحملة العسكرية التي يشنها التحالف العربي والدولي على دولة الخلافة المعلنة قبل ثلاثة اعوام في مناطق الفراغ (والتواطؤ) العراقي والسوري. لكن الظن بأن العمليات الاخيرة لـ”داعش” هي مجرد ضربات انتقامية تجاه اعدائه يحتاج الى الكثير من التدقيق.. الذي جزم على سبيل المثال ان عملية أورلاندو في ولاية فلوريدا الاميركية كانت رد فعل جنسي اكثر مما كانت رد فعل سياسي متصل بالتنظيم، بشكل او بآخر.

لا يمكن ان تعزى جميع العمليات الارهابية الراهنة الى الاضطراب النفسي لمنفذيها. ثمة حافز قوي للانتحار، يشبه الى حد ما الحوافز التي ادت بالمئات من اليساريين الى الموت في سبيل القضية في اواسط القرن الماضي. حالة الترهل والتفكك التي اصابت التنظيم الأم، “القاعدة”، هي التي دفعت ولا تزال تدفع الاجيال الجديدة من الانتحاريين للبحث عن عنوان للانتماء والهوية والصدقية، وهي التي تدفع جيلا كاملا من المرضى النفسيين الذين يواجهون اضطرابات خطيرة في محيطهم الاجتماعي او العائلي، لكي ينسبوا عملياتهم الانتحارية ذات الدوافع الشخصية البحتة الى “الجهاد العالمي”.

متابعة تلك الظاهرة المرضية تزداد صعوبة يوماً بعد يوم، مع توسع العمليات الانتحارية التي لا يمكن ربطها ببعضها البعض ولا يمكن تفسيرها، ولا يمكن الاستنتاج بسهولة انها تخدم اهداف “داعش” نفسه، وتعزز من مكانته، ومن شعبية قادته الذين لا يصدر عنهم سوى بيانات هي اشبه بهلوسات، تتبنى بعض العمليات وتحدد اسماء منفذيها.. ولا تستلهم لغة تنظيم القاعدة التي كانت تقسم العالم الى فسطاطين وتوزع المسؤوليات والمهام وتدرج المطالب التي كان يصل بعضها الى فلسطين.

الحال مع “داعش” مختلف تماما. الاتهام الذي وجه اليه بتنفيذ عملية مطار اسطنبول مثلاً او عملية بنغلادش او حتى عملية القاع، او ربما عمليات السعودية الثلاث التي لا يمكن أن تنسب الى جهة واحدة، لا يستقيم مع اي معطى سياسي، وهو لا يقود إلا إلى اجهزة الاستخبارات التي تتصارع وتتنافس في ما بينها، وتلجأ الى تلك الشريحة من الشبان المستعدين للموت بتلك الطريقة البشعة. التدقيق في تلك العمليات يؤكد انها تتعارض حتى مع نظرية “إدارة التوحش” التي يعتمدها الارهابيون المكلفون بتأهيل مجتمعاتهم لقيام حكم الاسلام.

ليس من باب التعجل او التخفف القول ان منفذي معظم العمليات الارهابية الاخيرة هم مجرد معتوهين، فروا من مصحات عقلية. او تفادوا الدخول اليها. فهذا التقدير هو اقرب الى الواقع من القول انهم جاءوا من كوكب آخر.

(المدن)

السابق
لعنة العراق التي عرت توني بلير
التالي
«النصرة» تكذّب النظام وحزب الله: أسراكم في قبضتنا