«في الألفة والقُربى» للسيد هاني فحص بين الفقه والشهادات في مناخ من الاعتدال والهوية

صدر عن «جامعة البلمند، كلية الآداب والعلوم الإنسانية»، كتاب «في الألفة والقربى» للسيد هاني فحص، وهي من كتابات جمعت من مناسبات معمظمها فقهي أو لاهوتي أو ديني أو شهادات في بعض القامات الدينية والصحافية، كالبطريرك اغناطيوس الرابع هزيم، والمطران جورج خضر، وغسان تويني، ومحجوب عمر، وطارق متري، إلى مقاربات بعض الكتب «سقوط لبنان المسيحي» لكمال ديب، و»كتاب الجرح» لجورج ناصيف.

وفي الكتاب شهادات في الراحل الكبير هاني فحص، من قِبَل المطران جورج خضر، و»هاني فحص في افتتاحيات غسان تويني.

هنا المقدمة التي وضعها الأب الدكتور جورج مسوح، إضافة إلى مقالة للسيد هاني فحص بعنوان «البشارة كفعل خلاص» (ألقيت في المؤتمر المريمي في جامعة اللويزة عام 2007).

هنا المقدمة ثم نص فحص.

وقد جاء في كلمة الأب مسوح:

قلّما اجتمع اللبنانيون من كل الطوائف، والشباب منهم بخاصة، على تقدير أحد رجال الدين كما اجتمعوا على محبة السيد هاني فحص. فمن السهل على رجل الدين أن يستقطب أبناء ملّته، ولكن من العسير أن يحظى بإجماع كل المواطنين، مسلمين ومسيحيين وغير متدينين… وقد استطاع السيد أن يكون عابراً للطوائف في زمن ساد فيه الاستقطاب الطائفي، والسعي الحثيث إلى إيقاظ الفتنة. حارب الانغلاق والشحن المذهبي، وكان داعية إلى الاعتدال والانفتاح على الآخر واحترام التنوّع الديني والثقافي.

ظلّ السيد هاني، في أشد الظروف ظلمة، في تواصل دائم مع الساعين إلى السلام الحقيقي في لبنان. وسار، كسائر رفاقه من المؤمنين بالحوار، بعكس التيارات السائدة في طوائفهم ومجتمعاتهم، في سبيل تعاقد وطني سليم يجمع اللبنانيين كافة على أسس راسخة تطوي الصفحات السود إلى الأبد، ويؤسّس لوطن يتساوى فيه جميع اللبنانيين على قاعدة المواطنة الكريمة.

آمن السيد هاني بالحوار الإسلامي- المسيحي وبأهميته في إزالة الشوائب التي تعتري العلاقات بين أهل الأديان والطوائف والمذاهب، وفي ترسيخ القيم الدينيّة والإنسانية التي تدعو إلى السلام والرحمة والألفة والتعاون، ليس في لبنان فحسب، بل على مستوى العالم العربي. لذلك، شارك في تأسيس «الفريق العربي للحوار الإسلامي – المسيحي»، وهو فريق يضم مفكرين مسلمين ومسيحيين من لبنان وسوريا ومصر والأردن وفلسطين والسودان.

كان أكثر ما يفرحه أن يكون في حضرة الشباب، ومتحدثاً في المنتديات الشبابية عن العلاقات المسيحية – الإسلامية ونظرته إلى دور الشباب في صنع مستقبل هذه البلاد على أساس المواطنة والمساواة والاحترام المتبادل. فكان يدعو إلى قيام «الدولة المدنية» غير المستنسخة عن التجارب الغربية، بل تلك الدولة التي يصنعها ويضع أسسها أهل بلادنا بناءً على ما ينفعنا كافة، وبما يتناسب مع مجتمعاتنا وخبرتنا التاريخية وحياتنا المشتركة ومصيرنا الواحد.

كان السيد هاني داعية للاعتدال ليس في أوساط مذهبه فحسب، بل كان يحضّ الجميع على انتهاج سبيل الاعتدال. فذات مرّة، من عشر سنين، جمعته والمطران جورج خضر ندوة عنوانها «مستقبل العلاقات المسيحية – الإسلامية في ظل الأوضاع الراهنة»، دعت إليها حركة الشبيبة الأرثوذكسية، وكان معظم الحضور من الشابات والشبان الأرثوذكس. يومذاك دعا السيد هاني الشباب الأرثوذكسي إلى عدم الاكتفاء بـ»الاستمتاع بكلام الاعتدال الصادر عن المطران خضر، ثم الانصراف والعمل بعكس هذا الكلام«.

في الواقع، لمس السيد هاني المشكلة التي تحكم تصرفاتنا جميعاً، نحن اللبنانيين، حيث الازدواجية المقيتة، والطلاق ما بين الاندهاش بالكلام الطيّب وبالبلاغة الساحرة، والانصراف إلى السلوك في الحياة اليومية بما لا يليق بهذا الكلام.

في الندوة ذاتها، قال السيد هاني إن «هويتنا تحدّدها نظرة الآخر إلينا، وتشكّلها أيضاً»، لذلك لا يجوز أن نغفل نظرة الآخر المختلف إلينا، فالآخر ثراء لنا وقيمة مضافة. هذه العلائقية والتبادلية هي التي تبني الجسور الثابتة للعيش معاً مواطنين متساوين في الكرامة الإنسانية.

اختار السيد هاني مركز الدراسات المسيحية الاسلامية في جامعة البلمند كي ينشر هذه الباقة من مقالاته «الارثوذكسية» التي تناول فيها شؤوناً وطنية شتى. والسيد هاني هو الذي أطلق على مقالاته هذه صفة الارثوذكسية، لأن ما يجمع بينها هو رجال دين ومفكرون وكتاب ارثوذكس يتناول السيد هاني فكرهم بالعرض والنقاش والتحليل والتقريب.

تتميز هذه المقالات بروح السيد هاني البلاغية، إذ يجمع فيها بين العلم اللاهوتي والفقه الإسلامي والفكر الصوفي وفلسفة الدولة وعلم الاجتماع والسياسة والأدب والشعر.. كل هذا مضافاً إليه الخبرة الشخصية التي كوّنها عن الشخصيات الارثوذكسية المعنية.

رحل السيد هاني بعدما ترك العديد من المؤلفات القيمة، غير أن كل الكتب والمقالات والأبحاث لا يمكنها أن تعوّض غيابه وغياب بسمته وأنسه وطيب اللقاء به. هاني فحص الودود، الدمث، الصادق، الصريح، الثائر، المشاكس، المنفعل… ليكن ذِكره مؤبداً.

الالفة والقربى
كتاب “في الألفة والقُربى” للسيد هاني فحص

البشارة كفعل خلاص

السيد هاني فحص

لاحظت في برنامج هذا الطقس المعرفي البشائري، في هذا الظرف المزدحم بنذر السوء، ان مقالتي مع اسمي مدرجة تحت عنوان مريمي صرف، وان القول السني والشيعي في المسألة قد احيل الى غيري. واني فخور بهذا الترتيب لموقعي وكأنه شهادة لي بأني مقيم في بيتنا المشترك، بيت التوحيد، بيت ابينا ابراهيم وفي الايمان الكبير انا كذلك، او اكدح لكي اكون كذلك، واصارحكم بأني ما ذقت حلاوة الاسلام والتشيع كما ذقتها بعدما شرعت في المناولة الروحية اثر قراءة النص المسيحي ومعاينة ومعاناة الشخص المسيحي، ولكني اخشى ان يفهم ذلك فهما عصبيا، حتى ليبدو وكأنه متأت من تركي لخصوصياتي الاسلامية او الشيعية، واعتقد اني لو كنت كذلك لما كانت شهادتي قيمة. وفي تصوري انه ربما يكون قليل الشجاعة من لا يرى مجالا للشراكة مع المسيحيين والشهادة للمسيحية الا في الانتقال من الاسلام الى المسيحية، او من لا يرى مجالا للشراكة مع المسلمين والشهادة للاسلام، الا في الانتقال من المسيحية الى الاسلام وكذلك القول في الانتقال من مذهب الى مذهب ونحن لا نصادر حرية احد وندعو الى اعادة النظر في مفهوم الردة، على اساس التفريق بين الاختيار السلمي والحرابة.

ان بعض الانتقالات غير المجدية، تكاد تكون اتهاما للاديان والمذاهب بأنها مغلقة، وتقديري ان المسلم او المسيحي يكون مغلقا او لا يكون كذلك، ولا يجوز للمغلق ان يغلق دينه، ديننا عليه او علينا.

أيها الأحبة، اني اقول في مريم وفيكم علنا ما اقوله سرا، وراقبوني، لا تراقبوني، فأنا اراقب الله الذي يراقبني، اني اكافأ على ذلك واعاقب راضيا، ولكني لا آتيكم من قطيع ولن اعود منكم الى قطيع. انا خروف يبحث عن راع صالح لا عن جزار، وعن انسان لا عن تاجر ماشية.

يقول جلال الدين الرومي في قصيدته «موسى والراعي» بالفارسية التي فصّل فيها واستبطن الحديث القدسي، موجها كلاما عن الله في عتابه لموسى على ما اوقع فيه الراعي من حيرة عندما حاول ان يرفع نجوى هذا الراعي من مصافها الفطري عمقا وشفافية وبساطة الى مقام التجريد الفلسفي ولغته الصعبة او المستحيلة، بلحاظ الوعي المفارق لدى الراعي، او وعيه المكتسب، على تواضعه وكونه لا يرقى الى مستوى الضرورة والشرط الايماني يقول مولوي: «انا (اي الله) انظر الى الداخل والحال لا الى الخارج والقال». فالمعول اذا، عن المكوِّن والمكوَّن في (كن فيكون) او بالاسباب الطبيعية التي هي تفصيل للاجمال في (كن فيكون) هو الحال كأن الله يصطفي من عباده امثال هذا الراعي وكأن قناطير من العلم، بلحاظ الغائية، قد لا تتساوى لحظة من راء يرى اذ يرى، اذاً فشرط الاصطفاء ليس خارجيا، لا هو معرفي ولا هو صلاة (من دون استبعاد لشأنية الصلاة ومن دون شروط عليها ايضا)، ولا هو خطاب هو داخلي بامتياز، هو سر، لا يحيط به احاطة شافية او تامة الا عارف مجرب لا مجرِّب وذو ذائقة وله بصيرة، او الله الذي يعلم السر وما تخفي القلوب ويعتمل في الصدور.

مريم اصطفاها ربها مرتين، مرة لذاته ومرة لنا: «ان الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين» قبل ان يصطفيها ربنا ربها الذي يمكن ان يصطفينا وهو احيانا يصطفينا، عندما نرغب ونقترب، هي غيرها بعد ان اصطفاها، صار الاصطفاء واقعة ورواية ومثلا، وصارت المصطفاة اماً كونية، اثبتت ان النبوة، كما هي تلق من المطلق، ان لم تكن شأن انسان ما؟ فان الانسان ذاته، هذا او ذاك لقابلية فيه، لسر فيه، يتقدم الى موقع، الى مكان، الى حال حاشدة بالنبوة في مريم، من خلال البشارة، حال من حال النبوة، كحال ام موسى عندما اودعته القفص واطلقته في البحر، وبقي قلبها خالياً لأنها اصغت الى الصوت الآتي من مكان آخر وهكذا صامت مريم بعدما تلقت البشارة ارتفعت، والصوم ارتفاع ويقال: «صام النهار اذا ارتفع» اي اصبحت الشمس في وسط السماء تطل على كل الجهات من مسافات متساوية، وترسل لنا نورها ودفأها بالتساوي صامت صمتا حفاظا على بكارة البشارة من الكلام المزجى على غير يقين «يا اخت هارون ما كان ابوك امرأ سوء وما كانت امك بغيّا» اذا، هذا استحقاق مريم، وهنا تطابق الارادة التكوينية للمولى اي التي لا يتخلف فيها المراد عن المريد، او الارادة ارادته التشريعية اي التي يمكن ان يتخلف فيها المراد عن الارادة او المريد عندما لا يكون المريد الثاني، اي الذي يباشر موضوع الارادة، الانسان، كفياً، وعليها يترتب الثواب والعقاب، لأنها مجال الحرية والاختيار. فيصطفي مريم من دون احباط لدورها وأجرها الذي بلغ الذروة في الحمل الاستثنائي المنقطع جذرياً عن كل ظواهر الكون وتسلسلها المعهود، وفي المخاض وحركة الكون حوله، من النخلة اليابسة تثمر في غير أوان وتستجيب بالهز فتهمي ثمراً جنياً، الى النهر السري الذي ينبجس انبجاس الكلام من الوليد، بولادته يولد الكون ولادة أخرى الى هذا الوليد أو المولود الذي عاد ليلدنا من دون أن يلد، أخصبته البتولية وخصّبته حتى غدا حقلاً كونياً للمعنى، للروح، للمحبة وبقي ويبقى الى أن يرث الله الارض ومن عليها بستاناً للمثل والامثال والمثالات والامثولات، كلما ذقته وشفيت من علة كالموت أو العمى أو البرص، ومرض المعنى أشد إيلاماً وإعضالاً من مرض البدن، تذكرت رحماً أدخرته لك وللعالم وللأزمنة تذكرت مريم وقلت: التقوى، الصمت، التخلي، الانصراف، الزهد، العفة، مصادر غنى وضمانة حياة.

هكذا اذاً، أنت مع مريم في عموم وإطلاق، لا زمانك زمانه ولا مكانك مكانه، ولا شروطك شروطه. زمانه ومكانه وشروطه، هي زمان المطلق ومكانه وشروطه، أي اللازمان واللامكان واللاشرط. اذاً ماذا؟ هي زمان الزمان ومكان المكان وشرط الشروط. هي الزماني عندما يتأله، والمكاني عندما يتمكن، والشرط عندما يضج الجسد بالروح فيصبح الجسد روحاً، وتصبح الروح جسداً، (مريم البشارة). المسيح، في المكان الشرقي القصي الى جذع النخلة. لعله من هنا جاء المأثور النبوي المحمدي (استوصوا خيراً بعمتكم النخلة). فلماذا اذاً، الحصر؟ لماذا الزهراء وزينب ورابعة العدوية ملك حصري للمسلمين؟ ولماذا العذراء ومريم والأم تيريزا ومريم الاسكندرانية ورفقة ملك حصري للمسيحيين؟ وأين هو الانسان الذي هو من الدين غاية وسبب؟ وهل دينه، اختياراً أو إرثاً يخرجه من ذاته، هذا ليس ديناً. لا إسلاماً ولا مسيحية«.

ومن يحصر المطلق يحصر ذاته ويحاصرها. (الخلق كلهم عيال الله) وقد يقترب المقيّد من المطلق، إذ يكدح اليه، بحكم تكوينه على الكدح. السيد المسيح في المهد وقبل الولادة (فناداها من تحتها) والرسل أجمعون (وتقلبك في الساجدين) (أشهد أنك كنت نوراً في الاصلاب الشامخة والارحام المطهرة).

الجسد، اللحم والدم، الرغبة والحاجة من دون تسفيه قيد. الجثمان قيد يميز حامله عن الرحمن ولا يفصله، لأنه اقرب اليه من حبل الوريد فاذا ما رَبَت الروح واحتدمت، لانَ، يلين القيد من دون قهر أو وجع، بالوجد، وكأنه لا قيد «كليم الله، خليل الله، روح الله، حبيب الله» «المؤمن يرى بعين الله» «لله عباد إذا أرادوا أراد» «عبدي أطعني تكن مثلي أو مثلي» اذاً، فمن كان قيده علامة بشريته، ليس الاّ، فهو في رصيد المطلق وفي قوامه. فمن يحصره اذاً وكيف ولماذا؟ من هنا، بمقتضى التكوين، بالفطرة، اعتراها أو شابها علم أو تعليم أو لم يشبها. أرانا في المسيح عيسى بن مريم، في مريم، في البشارة ومناخاتها المحتشدة بالبشائر والاغراء بالانوجاد حيث يمكن اللقيا والتلقي. على أننا سواء في ذلك، فحذار من حرماني من نعمة مريم، لأنها من أكثر مشاعات الكون حرية وخصوصية ايضاً.

اقرا ايضًا: المشهد السني – الشيعي

مريم، وصفت شرط البشارة والبشرى، وهو الشرط الانساني، الأزلي والابدي، هو الحرية، الحرية بالله لله، والله هو الغاية، تمر بالانسان والاّ فلا. ولا تصل، وتؤول، تنتهي الى الله، كما يعود المصب الى المنبع، والمسبب الى السبب، وإلاّ فلا. (إني نذرت لك ما في بطني محرراً) قالت أمها: لك، له، محرراً، بالتذكير وجاء التصحيح (وليس الذكر كالأنثى) التي ولدتها أم مريم ابنة عمران. والبتولية لياقة، اختيار، اهلية، عناء جميل ووجع أجمل، مقدمة مضمونة مأمونة موصلة. ليست حدثاً مريمياً، مريم شاهدها ومشهدها وشهادتها وعلامتها ودليلها، والتاريخ مداها، والانسان، أياً كان، معناها ومبناها، هلمّ الى مريم. علّنا نفهم كيف يتمحض المحدود بالمطلق فيمحضه إطلاقاً من إطلاقه، يساور الاطلاق أو يساوره الاطلاق، لا يداوره ولا يماهيه خالق ومخلوق ولكن يقيم في قلبه، يقيم المحدود في قلب المطلق كفاء اقامة المطلق في قلب المحدود، حتى لكأن المحدود هو المعادل العياني للمطلق في النظر الاول والظاهر «يا أيها الانسان إنك كادح الى ربك كدحاً فملاقيه». هكذا تقول مريم جسداً بتولياً وروحاً بتولياً واستقبالاً للروح وصوماً عن الكلام لأن البشارة أبهى وأبلغ. اللهم بلّغنا بهاءك في ابهيائك كفاء تبتُّلنا إما تبتَّلنا واصطفنا مرّة وقد اصطفيتها مرتين.

(المستقبل)

السابق
وقفة فنية تعبيرية تضامنا مع العراق ورفضا للارهاب
التالي
المرصد السوري: قطع الطريق الوحيد المؤدي للمناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة في حلب