إيلي الحاج لم يُخطئ بحقّ المسلمين والقرآن …

تمهيد: لم يُخطئ الحاج عندما كتب خاطرة لم تتجاوز السطرين، دعا فيها إلى زحزحة بعض معاني الآيات التي تحضّ على العنف والقتل، بل لعلّه أساء إلى نفسه عندما أساء التعبير عن مضمون فكرته، فبدت وكأنّها تنال من جلال الله وعزّته، أمّا أنّ الدعوة الإسلامية (كاليهودية طبعا) تنوء بأثقال الآيات والأحاديث والأحكام الفقهية التي تحضّ على القتل والعنف ،فهذا واضحٌ لا لُبس فيه، وهي تُظهر الدين الإسلامي كدين عنف وسيف واكراه، لا دين رحمة وتسامح وسلم، ونرغب هنا أن نُطمئن السيد الحاج ومن تصدّوا له (بغير حق طبعا) بأنّ هذا الموضوع المتعلق بتفسير الموروث الديني وتأويله، كان الشُّغل الشاغل لعلماء الكلام وأصول الفقه الإسلاميين، منذ أن افتتح المعتزلة الكلام في صفات الله، والوحدانية، والقدم، وخلق القرآن، نعم، فتحوا إشكالية المرور من الخطاب الإلهي إلى الخطاب البشري، والتي لا يجرؤ أحدٌ اليوم من الاقتراب منها، فالقرآن عندهم مُحدث ومخلوق، وذلك إمعاناً في تنزيه الذات الإلهية التي لا يشاركها في الأزل صفة أو قرآن، لاستحالة وجود إلهين قديمين أزليين.

أولا: زحزحة مفهوم الإله السلفي..

لماذا أصرّ المعتزلة على نفي الصفات عن الله تعالى؟ فلا يوصف بعلم ولا قدرة ولا استطاعة، وذهبوا إلى أنّ الصفات هي عينُ الذات، فإذا قلنا بأنّ الله عالم، فهذا لا يعني أنّه كان جاهلا وعلم، تعالى عن ذلك علُوّا كبيرا، بل إنّه عالم بعلم هو هو ، ونفى معمر بن عبّاد السلمي الصفات ، بما فيها صفة القدم وحلّ محلّها المعاني، وأبو هاشم الجبائي ذهب للقول بأنّها “أحوال”، كل ذلك كان لعدم الوقوع في التشبيه والتجسيم للذات الإلهية، وكانوا يحاولون التخلص من مفهوم الله المنتقم الجبار، المُسلّط فوق رقاب العباد، للخلاص من هذا المفهوم لجأوا للمغالاة في التنزيه والتجريد، حتى أنّهم قالوا باستحالة رؤية الباري يوم القيامة، وكان المجسّمة يذهبون إلى تصوير الأعضاء “الإلهية” تصويرا خارقا مخيفا، وإذا كان الله مسلطا فوق رقاب عباده بحيث يحصي حركاتهم وسكناتهم ، فإنّ العبد يبقى خائفا مذعورا، وذُكر أنّ أهل مكة لم يكونوا ليخافون الله، وإنّما خوفهم كان من أركان عقيدة محمد، كانوا يظنون الله بعيدا عنهم بُعدا عظيما، في حين أن النبي أخبرهم أنّ الله قريب جدا،بل هو أقرب إلى الناس من حبل الوريد( سورةق، آية ٦٦).

ثانيا: قافلة الشهداء..

لم تمر مهمة زحزحة النصوص عن حرفيتها ،وصرفها عن ظاهر معناها إلى معانٍ أكثر عقلانية وانفتاحاً وانسانية دون ضحايا وخسائر جسيمة ،انتهت بالقضاء التام على التيار العقلاني ، وسيادة الجمود على التقليد، وقد فتحت هذه الأمة الإسلامية عينها أواخر القرن الماضي، لتجد في وجهها أعتى مقولات الإسلامويين تحجُرا وظلامية، وقائمةُ الشهداء الذين قضوا في معركة التجديد الفقهي ،وتمرّر الشرط البشري طويلة،منذ القرن الأول الهجري، فقد افتتحها معبد بن خالد الجهني، الذي كان امتدادا للصحابي أبي ذر الغفاري، فقد انطلق الجهني في محاربة ظلم وطغيان الأمويين الذين كانوا يبررون طغيانهم بالعدل الإلهي، فقاوم فكرة الجبر التي أشاعها الامويون ،وقال بالحرية الإنسانية المناقضة لفكرة الجبر، فقبض عليه الحجاج وعذّبه وقتله عام ٨٠ هج.

أمّا الشهيد الثاني فكان عمرو المقصوص، ويقال أنّه كل ن معلماً لمعاوية بن يزيد بن معاوية، وعندما آلت الخلافة لمعاوية، استشار معلمه، فقال له عمرو: إمّا أن تعدل أو تعتزل، فخطب معاوية في الناس فقال: إنّا بُلينا بكم وابتُليتم بنا، وإنّ جدي معاوية نازع الأمر من كان أولى منه وأحقّ، فركب منه ما تعلمون حتى صار مرتهنا بعمله، ثمّ تقلّدهُ أبي ،ولقد كان غير خليقٍ به، فركب ردعه واستحسن خطأه، لا أحبّ أن ألقى الله بتبعاتكم، فشانكم وأمركم ،ولّوه من شئتم، فوالله لئن كانت الخلافة مغنماً لقد أصبنا منها حظّاً، وإن كانت شرّاً فحسب آل أبي سفيان ما أصابوا منها. ثم نزل واعتزل الناس حتى مات بعد أربعين يوما من خلافته، فوثب بنو أمية على عمرو المقصوص ، وقالوا أنت أفسدته وعلّمته، ثمّ دفنوه حياً، حتى مات، فكان الشهيد الثاني للمذهب القدري.

إقرأ أيضاً: إيلي الحاج سيدخل الجنة بلا عذاب!

أمّا الشهيد الثالث فكان غيلان بن مسلم الدمشقي، ويُعتبر المبشّر الأول لمذهب العدل الإلهي، الذي اعتنقته فيما بعد فرقة المعتزلة، وقد وقع غيلان بين يدي هشام بن عبد الملك، فقال له: زعمت أنّ ما في الدنيا ليس هو عطاءٌ من الله لنا، فقال له غيلان: أعوذ بجلال الله أن يأتمن خوّانا ، أو يستخلف الخلفاء من خلقه فُجّاراً…لم يُولّ, الله وثّاباً على الفجور ، ولا ركّاباً للمحظور، ولا شهّادا للزور ،ولا شرّابا للخمور، فأمر بحبسه، وقطع يديه ورجليه مع صاحبه صالح.

هذه هي القافلة الأولى من الذين حاولوا إقامة نوع من التوازن بين الإرادة الإلهية والإرادة البشرية كارادة حرّة، ثم انضم إليهم الجعد بن درهم الذي تُنسب إليه مقولة خلق القرآن، فلاحقه الامويون فهرب إلى الكوفة، فوقع بين يدي خالد بن عبدالله القسري، فوضعه في السجن، حتى أمر الخليفة هشام بن عبد الملك بقتله، فأُتي به يوم أضحى في وثاقه، فصلّى خالد صلاة العيد، وخطب خطبة العيد، وقال في آخرها: انصرفوا وضحّوا بضحاياكم، تقبّل الله منّا ومنكم، فإنّي أريد أن أُضحّي اليوم بالجعد بن درهم، فإنّه يقول: وما كلّم الله موسى تكليماً، ولا اتخذ إبراهيم خليلاً، تعالى الله عمّا يقول علوّاً كبيرا، ثمّ نزل وحزّ رأسه بالسكين في أصل المنبر، ويقول عنه ابن تيمية أنّه أول من نادى بالتعطيل، وبمذهب نفي الصفات وبنظرية خلق القرآن.

إقرأ أيضاً: إذاعة «الشرق» تُنهي عقد عمل الصحافي إيلي الحاج بسبب «بوست» على «فيسبوك»

بعد هذه القافلة، ستحتدم المناقشات الكلامية، وسيصاحبها عنفٌ من جميع الأطراف، إلى أن دخلنا عصر الانحطاط، حتى مشارف حركة النهضة العربية أواسط القرن التاسع عشر، حتى تقدمت الحركات الإسلامية الأصولية، بالتكفير والعنف والاجرام، والصراعات المريرة على السلطة والهيمنة.باءت الحركة النهضوية بالفشل، ولحقت بها حركات الإصلاح الإسلامية، وتوطدت الديكتاتوريات مدة تربو على نصف قرن، نعيش اليوم نتائج طغيانها بحروب إقليمية وأهلية مديدة، فالحمد لله ياسيد إيلي أن ابتلائك اقتصر على الوظيفة، ولم يصل لحدّ حزّ الرقبة، فحمدا لله على السلامة.

(لبنان الجديد)

السابق
جيسكار أبي نادر: نادين الراسي غير كفوءة أخلاقياً
التالي
لماذا لم تثر تصريحات نصرالله حول مصادر أموال حزبه … حفيظة الأميركيين؟