من وحي البروفيه: قصتي مع الزعتر

من وحي نتائج البريڤية. أذكر بأن الناجحين في صفّنا كانوا ثلاثة فقط: الدكتور ياسر بيطار «من النبطية»، السيدة رنا مقلّد وأنا، قبل أن توزّع «إفادات نجاح» على جميع الراسبين:

تفاجأت قبل سفري الى صيدا في صيف العام 1979 لخوض الإمتحانات الرسمية للشهادة المتوسطة، بأن أمّي قد أعدّت لي في الصباح سندويشاً من الخبز العربي النادر حينها – وكنا نسميه بالخبز الفُرنِي – وبداخله قطع من سودة الغنم النيّئة والليّة والبصل وأوراق النعناع…
تفاجأت، لأنني توقّعت أن «كدُّوشة» الزعتر والزيت بالخبز المرقوق ستكون حاضرةً قبل يوم الإمتحان الصعب، حيث كانت قناعتنا قد ثبتت بأن الزعتر والزيت يُنمّي الذكاء ويغذّي الذاكرة، بعد أن كنّا قد نشأنا على هذه الفكرة من قبل آبائنا وأمهاتنا في القرية…
رافقني جدّي لأمي الى صيدا. جدّي كان يميّزني عن جميع أحفاده… أذكر بأنّه كان يلبس جاكيتاً لا تناسب الطقس الحار حينها، فقد كان يلبسها صيفاً وشتاءً، رغم أنّها لا تكفي لصدّ البرد شتاءً وترهق الجسد في أيّام الصيف الحار…
كان الإمتحان عبارة عن أربع ساعات… خرجت منه مرتاحاً مطمئناً… كان جدّي ينتظرني قرب البوابة الحديدية للمدرسة… عندما لاحظ الشعور بالإرتياح على وجهي ابتسم وظهر سنّه الذهبي، ثمّ أمسك بيدي وجرّني الى مكان قريب، حيث رأيت، ولأول مرّة في حياتي، دجاجاً عارياً يدور في شيء يشبه الخزانة، وتفوح منه رائحة شهية لا تشبه رائحة ما كنا نأكله في القرية…
أوصى جدّي البائع على ثلاثة سندويشات، كانت حصتي منها الثلثين بالإضافة الى قنينة زجاجية من الببسي كولا…
في الطريق الى القرية كنت أسأل نفسي، لماذا إصرار أمي وجدي في ذلك اليوم على تلك الوجبات المتتالية من تلك اللحوم الغريبة؟

إقرأ أيضاً: بو صعب يتصل بالأولى على لبنان ويهنئها مباشرة على الهواء
عندما وصلنا مساءً بعد انتقالنا من سيارة أجرة الى ثانية وثالثة شعرت بالجوع من جديد، فسلخت من «لَكَنْ الخبز» رغيفاً جبَلت فوقه الزعتر والزيت وخرجت من المنزل للعب، فقد بدأت العطلة الصيفية.
لم يستطع طعم الزيت والزعتر إزالة نكهة الثوم ولا ذكرى السّودة النيئة الصباحية… ولم أستطع كذلك الإجابة على سؤال، لماذا الإصرار على ذلك التعب والجهد الذي نبذله جميعاً في جمع عروق الزعتر وأوراقها الخضراء، في الوقت الذي تتواجد في الحوانيت والمطاعم تلك الأنواع التي تذوقتها صباحاً وظهراً، ولماذا كان أبي يشتري «المعلاق» من دون 
«السّودة» عندما تكون بتلك اللذّة، ولماذا تعمّدت أمي بأن تخبىء لي رغيفاً ” فُرنياً ” بإنتظار ذلك الصباح؟

إقرأ أيضاً: بوصعب: نتائج البروفيه ستصدر اليوم والتلميذ الأول على مستوى لبنان حصل على هذا المعدل
توصّلت الى معرفة الأجوبة عن تلك التساؤلات بعد سنوات كثيرة، ومعهم الإجابة على سؤال، لماذا كانت تلك الجاكيت لا تفارق جسد جدّي في الصيف وفي الشتاء.
نجحت في الامتحان الرسمي. شعرت حينها بأن ” كاسة ” الزعتر البلدي المجبول بالزيت والعرق والكد والتعب والموضوعة على الرّف الأول لل” نمليّة ” في المطبخ لم تحزن لأنني تركتها في ذلك الصباح… شعرت وكأنها تُبارك لي نجاحي وتبتسم.

السابق
المستقبل: الرملة البيضا لا زالت في متناول الزوار‏
التالي
متهم باغتيال «عوالي» يُعرب عن حبّه لـ«حزب الله»