تلك الحرب على الإرهاب

لن يفلح كل الذين يخوضون الحرب العسكرية على الإرهاب اليوم؛ إلا اذا اقتصر نصرهم على تأمين حدودهم، أو بالأحرى طموحاتهم الحدودية. قبل أبو بكر البغدادي، كان هناك جهيمن العتيبي، ثم أبو مصعب الزرقاوي، ثم أسامة وبن لادن. كل مواجهة ضد هؤلاء كانت تفضي إلى شكل متجدّد من أشكال الارهاب؛ وإلى أشكال مبتكرة أيضاً من الحرب العسكرية ضده.

والآن، مع الحرب على “داعش”، وهي حرب تمعن في تدمير المجتمعات التي تحتضنه، لا يتصور أي عاقل بأن المزيد منها، المزيد من القتل على أيدي أميركيين أو إيرانيين أو روس أو كرد… سوف يبلور فكرة تطيح بالتنظيم الإرهابي، أو تمنع إنبعاث أفكار إسلامية جهادية مستحدثة، تكون أشد هولاً، أشد عنفاً وإجراماً.

الجميع، بمن فيهم مطلقو النار ضد الإرهاب، يردّدون هذا القول؛ ويلوحون بأشكال غير عسكرية من الحرب ضد الإرهاب الإسلامي. الأوروبيون والأميركيون، لهم في جعبتهم القيم والأفكار والمسالك الديموقراطية التي يدعون الى التمسك بها، وحمايتها؛ وبذلك، يتابعون، سوف ينتصرون على “داعش” وأخواتها، ويزيلون كلمة “إرهاب” من القاموس المعاصر. ولكن ديموقراطيتهم في أزمة؛ لأن إقتصاد التوحش يتغلب عليها، وأيضاً لأن حربهم هذه ترغمهم على التشبّه بالإرهاب، والإسترسال في قوانين محاربة الإرهاب، والتي تحدّ يوما بعد آخر من الحريات الأساسية، العامة والفردية. أما النماذج التي يقدمها المشتركون الآخرون في هذه الحرب، من روسيا وايران وتركيا، فان نماذجهم إما آلية الى الانهيار، أو انهارت وحلت محلّها الشوفينية “الوطنية”.

أما هنا، في عالمنا العربي، فاننا ندفع ثمنا مضاعفاً، هائلا، من الحرب على الإرهاب. فنحن الساحة والموضوع، بلادنا هي التي تدمَّر، وإنساننا هو الذي يُهجّر ويُقتل ويُبتز ويتحول الى شعوب بائسة ضائعة، لا تبحث إلا عن مأوى يحميها من بطش الخيار بين الإرهاب والإستبداد… نحن الموضوعين أمام خيار بين الإثنين. ونحن الذين سوف نعيش، بلحمنا الحيّ، بعد “الانتصار على الارهاب”، بزوغ ذاك الإرهاب الجديد. والأهم من كل ذلك، نحن حملة الإرث الديني الأيديولوجي الذي يستمد منه الإرهاب كل شرعيته؛ بمعنى آخر، نحن المعنيين بكل كلمة أو فكرة تخرج من الإرهاب، وتقول ان هذا هو الإسلام والتاريخ. نحن المسؤولين عنها، والمؤهلين لتمحيصها ومواجهتها وردّها إلى حيث خطئها وإثمها.

اقرا ايضًا: هل ستتحقق نبوءة «السيد نصرالله» ويبقى «ربعنا» على قيد الحياة؟!

المطلوب منا خوض الحرب غير العسكرية ضد الارهاب. لائحة مهماتنا طويلة. أولا، لنغير اسمها، ولا نقول اننا نخوض حربا ضد الارهاب، كي لا نتماهى معه في بداية الطريق أو أواسطها. لنقل انها حرب العقل، جهود عقلية، شيء يشبه “الإجتهاد”، من دون المنحى الديني الصرف. أما المجالات، فهي المعضلة. من أين نبدأ؟ من الإجتماع أو الدين أو الثقافة أو الجنْدر أو السياسية أو الإقتصاد؟ وبأي معنى؟ أية صيغة؟ أية بداية نلتقط؟ أية فكرة؟ أي منهج نعتمد؟

 

هذا من الناحية الإجرائية، إذا جاز التعبير. وأنا هنا أوردها، ولا أخترع جديداً عنها. فقط أقنّنها، هذه المجالات، أسمّيها. وأقترح الأولويات بناء عليها: هل يكفي أن يكون الإرهاب دينيا لكي نبدأ بالدين؟ أم نستهلّ بالإقتصاد؟ أم بالعلاقات بين الجنسين؟ الخ. ثم، هل يكفي النقد؟ ألا نحتاج إلى فعل؟ فهل تغيير الأفكار يحصل من دون تغيير حقائق العيش وقوانين الإجتماع؟ دون تغيير الواقع الذي يحياه الأفراد والجماعة؟

 

ولكن الأمر الأشد صعوبة، هو إيجاد الخيط الناظم للأفكار المطلوب بلورتها بوجه الإرهاب. فالساحة الفكرية مثقلة بالإرث الديني المشوّه، وببقايا تجارب سياسية لم تحرز أي نجاح؛ سواء بلغت السلطة، أو بقيت تشتهيها دهراً من الزمن، من دون ان تتشكَّل كمعارضة جدية بديلة عن تلك التي حَكَمت. الذين تفرّعوا عن هذه المعارضات، إما يساريين سابقين، من شيوعيين وقوميين، وما زالوا يرددون بأن فكرتهم هي الصالحة، يقفون عاجزين امام الاستبداد والارهاب معاً. إما هؤلاء إذن، وإما الذين افترقوا عنهم، من أجل “ديموقراطية” أرادوها حلاً لكل المعضلات: “الديموقراطية هي الحل”. وهم بذلك لا يفعلون غير رمي الحجر إلى الأصحاب الأصليين لهذا الشعار، والقائلين بأن “الاسلام هو الحل”.

(المدن)

السابق
مواجهة جويّة أميركيّة – روسية فوق سوريا
التالي
صرخة من القلب لسوريا