الأمر بالنسيان

تُصدر السلطات اوامر بالنسيان. ينبغي على العامة محو الماضي من الذاكرة الفردية والجمعية والتطلع الى المستقبل كما تراه القوى المهيمنة على المجتمع. تُمسح صور المخالفين للنظام العام، السياسي والاجتماعي، ويُنبذ هؤلاء ويُدفعوا الى العدم والغفلة.

يتعين ان تبدأ الذاكرة مع استواء السلطات الحالية على عروشها المادية او المعنوية. لا تاريخ قبله غير تاريخ الاعداد لهذا التحول الجذري في مسار الأحداث ولا تاريخ بعده غير الانحطاط والحلم بإحياء ماض ذهبي متخيل غالبا ما يستهلك السير نحوه كل ما ينبض بالحياة في عروق الجماعة الراغبة في ركوب سفينة النجاة.

كان الرومان يصدرون “إدانة بالنسيان” (Damnatio memoriae) بحق من يرون أنه اساء الى روما واستخدمت هذه الادانة في اطار الصراعات السياسية بين اسر النبلاء والطامحين الى المناصب الأعلى. فالنسيان في هذا المنطق فعل ارادي يتمثل في ازالة صور المطلوب نسيانه من الفسيفساء واخفاء تماثيله من الساحات العامة وطمس ذكره في السجلات العامة وينقضي الامر. أصابت الإدانة بالنسيان الاحياء والأموات وكانت بمثابة حكم اعدام مضاعف. فماذا يبقى من انسان نُسي كأنه لم يكن؟

ربما كان الرومان أول من اعتمد هذه الصيغة الرسمية من فرض النسيان، لكن الموقف هذا استمر قرونا طويلا بعد اختفاء الامبراطورية الرومانية. صور تروتسكي قرب لينين اثناء ثورة 1917 تعرضت الى “رتوش” عميق اختفى بعدها صاحب “الثورة الدائمة” من المشهد بعدما خسر في الصراع ضد ستالين الذي اعتمد تقنية تغيير الصور كلما سقط احد انصاره السابقين من لائحة المحظيين لديه. وما زالت الممارسة هذه مستمرة على اوجه مختلفة.

تجوز المتابعة في سبر محاولات السلطة فرض نموذجها وسيطرتها عليها، وما من حدود تتورع اي سلطة عن السعي الى اقتحامها. الحياة الشخصية للافراد وحقوقهم البسيطة هي من الأسلحة التي تبلي السلطة بلاء حسنا في استغلالها وابتزاز الضعفاء من خلال تصوير نفسها بصورة المحسن الذي يتبرع للناس بما هو اصلا ملكا لهم.

-2-
هو انقلاب مثير للسخرية لأنه يكشف الكثير من الحقائق التي صدر بحقها “امرّ بالنسيان” من الحزب ذاته، منها انه منخرط في النظام الاقتصادي والمصرفي اللبناني اكثر مما كان يظن ربما، ومنها انه أكثر هشاشة مما كان يزعم وأن ادوات حصاره والضغط عليه متوافرة لدى العديد من الخصوم، ومنها ان القطاع المصرفي اللبناني لا حول له ولا قوة اذا خُيّر بين الاذعان لاملاءات الخارج الذي يتحكم بكل تفاصيل الاداء الاقتصادي وبالتالي النقدي والمصرفي في لبنان وبين إعلاء مصلحة مجموعة حزبية على مصالح الخارج وفئات عريضة من المودعين والمستثمرين والمقترضين.يدعو الى السخرية ذاك الانقلاب السريع في صورة “حزب الله” من كيان فولاذي لا تأخذه سنّة ولا نوم، ولا حسابات مصرفية لديه ويتحكم بدورة اقتصادية مستقلة عن تلك التي تعيش اكثرية اللبنانيين في كنفها، الى مجموعة مُضطَهدة مُلاحقة في رغيف الخبز ومُدافعة عن حقوق الملايين من المظلومين الذين تُطاردهم اجراءات الادارة الاميركية الغاشمة والجائرة.

القرار الاميركي ينطوي على جوانب اعتباطية تطال اناسا ابرياء ويفتقر الى آليات دقيقة في تحديد المساهمين في نشاطات حزب الله المالية ويمس بالسيادة اللبنانية. وهذا اقل ما يقال.

لكن لنتمهل قليلا. منذ تأسيس الكيان اللبناني، ارتبط هذا عضويا بالاقتصاد العالمي عن طريق تعزيز الاستيراد واهمال القطاعات الانتاجية وتولي مهمة الوساطة المالية والتجارية في المنطقة. لم يكشف الاقتصاد اللبناني “ألوانه الحقيقية” بين ليلة وضحاها. هو هكذا منذ عقود طويلة وطبيعته وبنيته وسلبياته الواضحة موضوع نقد سياسي واجتماعي وثقافي منذ ما قبل الحرب الأهلية. خضوعه للتعليمات الاميركية ليس اكثر من استمراره في الوفاء لمهماته الاصلية التي فشلت كل محاولات تغييرها.

إقرأ أيضاً: حرب المصارف المجيدة

وما مكابرة حزب الله على هذه الوقائع البديهية الا تكريس لانفصاله عن الاجتماع والاقتصاد اللبنانيين واعتقاده بحقه وقدرته على تسييرهما وفق ضروراته، تماما كما فعل في في حرب تموز 2006 عندما سخر المتحدثون باسمه من الاعتراضات التي قامت على ضرورة اخذ رأي اللبنانيين في الانزلاق الى حرب مع اسرائيل، ناهيك عن مصادرته لقرار مصيري يتمثل في الحرب والسلم، من الدولة وهيئاتها- على هزالها- وتعيين نفسه مسؤولا عن حياة وموت لبنانيين لم يعرفوا، أصلا، سبب اندلاع القتال في ذلك اليوم الحار. بعد نهاية الحرب واتضاح حجم الدمار الذي اصاب لبنان وبنيته التحتية والعدد الضخم من الضحايا المدنيين، ابتكر الحزب ديباجة مفادها ان اسرائيل كانت تحضر للحرب وانه لم يفعل غير استباقها.

في ما يتعلق بانتهاك القرار الأميركي للسيادة اللبنانية، نعم ثمة انتهاك. بيد أن الامر لا ينتهي اذا رفضنا القرار ووصل رفضنا الى حدود تهديد المصارف وزرع عبوة ناسفة في محيط المصرف الاكبر من بينها في خطوة لا ينكر مرتكبها الا اصحاب الغرض.

-3-

هناك وجهان لهذا الانتهاك: الاول يتعلق بالضعف البنيوي للاقتصاد اللبناني وسبقت الاشارة اليه اعلاه. لا يمكن بعد عشرات الاعوام من الارتباط بالأسواق المالية العالمية ان ينكفئ القطاع المصرفي الى الداخل اللبناني من دون أن تكون لذلك عواقب وخيمة. يكفي لتصور ذلك ادراك أن كل الحوالات والشيكات الآتية من الخارج تمر في مصافي المصارف الاميركية التي تعيدها الى لبنان بعد الموافقة عليها. اغلاق هذه المصافي بقرار سياسي اميركي يعني قطع كل التحويلات الخارجية سواء التي يرسلها المغتربون الى ذويهم او تلك المتعلقة بالتبادلات التجارية.

قد تسمح رغبة الدول الكبرى في عدم تفجير الوضع في لبنان حاليا بتدوير زوايا العقوبات على حزب الله واستثناء بعض الهيئات الخ… ما قد يُفسره الحزب وانصاره بنجاح “7 أيار المالي” الذي نفذه بواسطة المتفجرة في فردان.

الثاني والأخطر، أن الحزب، بالتكافل مع شركائه في الحكومات التي توالت على حكم لبنان منذ بداية الثورة السورية، قد حطم الى غير رجعة كامل مفهوم “السيادة” بنقله الالاف من مسلحيه الى سوريا ليس للقتال دفاعا عن نظام بشار الاسد الاجرامي فحسب، بل كجزء من مشروع للتغيير الديموغرافي الطائفي والعرقي برعاية ايرانية.

إقرأ أيضاً: بالتفاصيل: أسر مجموعة عسكرية لـ«حزب الله» في حلب!

“الذهاب الى سوريا” ليس مهمة عسكرية تنتهي بعودة المقاتلين الموفدين الى بيوتهم، بل هو في المقام عليه، ينبغي النظر الى قضية السيادة وفق هذا المنظور الذي يأخذ في الاعتبار انها تبدلت تبدلا جذريا بسبب التورط في الحرب السورية. وهو تورط تتواطأ على قبوله وتمريره كل “الطبقة السياسية” في لبنان. وسيدفع اللبنانيون ثمن هذا الانخراط ليس عبر خسارته مئات الشبان الذين يعودون قتلى من سوريا، بل من خلال تدمير كل الاسس التي قامت عليها الجمهورية اللبنانية.الاول تغيير للحدود والمعايير الناظمة للعلاقات بين دولتين يفترض انهما ناجزتا الاستقلال. وكان من قصر نظر شركاء حزب الله في الحكومة انهم نسوا طلبهم السابق بانسحابه من سوريا (بعدما طووا فكرة وضع سلاحه بتصرف الجيش). الوهم بانتهاء اثر المغامرة السورية لحزب الله بعد انسحابه يشبه الوهم الذي ساد في التسعينات من القرن الماضي عندما اعتقد كثر من اللبنانيين ان الحزب سيصرف عناصره ويتحول الى حزب سياسي بعد الانسحاب الاسرائيلي. لا! المغامرة السورية عنصر مكون لمستقبل لبنان لعقود طويلة مقبلة تماما مثلما دخل “سلاح المقاومة” عنصرا في صيغة الحكم اللبناني، وعندما حاول فريق “14 آذار” تصعيد اعتراضه جرت المنازلة بهذا السلاح في الشارع.

فلا معنى لحديث عن سيادة في القطاع المصرفي فيما يجري التلاعب بالتركيبة الديموغرافية والتدخل في خيارات شعوب اخرى. “الأمر بالنسيان” لا يمكن أن يكون على هذا القدر من الاتساع.

السابق
فجأةً.. الأسد في خطر!
التالي
باب الحارة السوري: يفجر الغضب السعودي على mbc‏