عن الـ«إيران غيت».. وذنوب أمين معلوف

ليست المشكلة في أن تتكلم مع عدوك، المشكلة في ما تريد أن تقوله لعدوك. ولن يعني الكلام مع جهات إسرائيلية قبولا بأمر إسرائيل الواقع إذا كان متن الكلام يرفض هذا الأمر وهذا الواقع.

لي في فلسطين الكثير من الأصدقاء. جمعنا الزمن يوما في بيروت قبل أن يجليهم اجتياح عام 1982 ويرحّلهم من جديد إلى المنافي، وتحملهم رياح أوسلو إلى “الداخل” الذي طالما سعوا للعودة إليه. لم ينقطع تواصلنا رغم أن المسافات باتت بعيدة في الجغرافيا وفي الاهتمامات، وطالما أكملنا حديثا انقطع كلما توفّر لنا تواصل ما. ومن حواضر التواصل لازمة الدعوة إلى زيارتهم في فلسطين.

لم أفعلها. ذلك أن في وعيي وبنائي ما ينفّرني من فكرة المرور عبر مؤسسات الاحتلال لأعبر إلى تلك الأرض التي طالما نفخت روائحها عبقا وعصرت حبرا نسج قماشة ردائنا في فهم فلسطين ومقت محتليها. ورغم أن جدلا في ذاتي يدور ما بين العاطفي والعقلاني حول ضرورة الزيارة من عدمها، فإن عدم الحسم في هذه المسألة لدى الفلسطينيين أنفسهم، بمن فيهم أصدقائي هناك، رجّح كفّة الإحجام عن العبور نحو فلسطين أو تأجيل تلك الفكرة إلى حيوات أخرى، ولكن ذلك الموقف لا يعبّر عن حسم مبدئي بقدر تعبيره عن قصور في الإفتاء في هذا الشأن، بما يغنيني عن الحكم على من يفتي بغير ذلك.

في فلسطين من يعتبر أن زيارة أي عربي هي اعتراف بأمر الاحتلال وإمرة المحتل، وبالتالي فإن الأمر تطبيع مجاني. وفي فلسطين من يعتبر أن زيارات من هذا النوع، ومن قبل العرب بالذات، هي تطبيع مع الفلسطينيين ودعم معنوي، وربما اقتصادي وسياسي، لهم. ومع ذلك فإنه، وبمناسبة زيارات عربية لافتة، يتجدد السجال الداخلي حول الأمر، ناهيك عن ذلك في الخارج، حول تطبيعية الزيارات من عدمها.
والحقيقة أن العقل العربي لم يستطع تطوير وسائل مقارعة الاحتلال، وربما لم يجد سبيلا آخر، غير تلك التي تَرْدَحُ بها منابر تقليدية انتمت إلى النظام السياسي العربي أو نظام المعارضة العربي. لم تستطع وسائل المقاطعة إضعاف سطوة المحتل، ولم تسجل وسائل الصدام الناري بنسخته الرسمية أو تلك الفصائلية إرباك التمدد الاحتلالي. بات الحدّ الأدنى لرفض الاحتلال، بعد تصدّع الحدود القصوى، أن يُقاطع هذا المحتل وألا يتم اللقاء به ولا محادثته ولا رؤيته حتى لو كان أمامك.

بدا البيت العربي مرتبكا برواج ظاهرة الفضائيات العربية التي تقدم للعرب داخل بيوتهم “ضيوفا” إسرائيليين يحدثونهم ويسألونهم ويساجلونهم ويعنفونهم. كان الطرف الإسرائيلي حريصا على تلبية دعوات تلك الفضائيات لتوق إلى اختراق حصار ثقافي ونفسي للمشاهد العربي. نجح أمر ذلك، وجاء في إطار جهد الإعلام العربي في مواجهة ذلك الإسرائيلي، رغم أن الأمر بقي نافرا، طالما رفض الضيوف العرب الاصطفاف داخله.

مفارقة الأمر أن علاقة العرب بإسرائيل بقيت متشنجة تختلف عن علاقة فلسطينيي “الداخل” بإسرائيل على ضفتي خطوط الـ48 والـ67. فبالنسبة إلى الفلسطينيين، فهم يعيشون تطبيع الضرورة في تفاصيلهم اليومية، بما يجعل من التعاطي مع المحتل أمرا مقاوما. ومفارقة الأمر أن إسرائيل سعت لترجمة كتب العرب إلى العبرية، ليس تحريا لاقتراب العرب منهم، بل ربما من أجل تطوير الوعي الإسرائيلي العام للانخراط المقبل أو المحتمل مع البيئة العربية المحيطة.

ليس بالضرورة أن تكون استضافة القناة التلفزيونية الإسرائيلية I24 للكاتب الفرنسي لبناني الأصل أمين معلوف جزءا من توجّه لاختراق الثقافة العربية والولوج إلى دواخلها. وربما أن نقاشا جرى في أروقة القناة الإسرائيلية حول مفاعيل المقابلة العتيدة، لكن النقاش لا يمكن أن يمسّ حدود التفاعل مع الثقافة العربية ومثقفيها، ذلك أن أمين معلوف في عرفه، وفي عرف الإسرائيليين، لا يقدم نفسه مثقفا عربيا مهووسا بالهمّ العربي في بعديه الماضوي والراهن، بل هو كاتب فرنسي يعبّر بلغة روسو وموليير، ولا تعود أعماله إلى العالم العربي إلا مترجمة من أصل إلى منقول. وربما في مضمون المقابلة الشهيرة، التي تناولت اللغة والثقافة وشخوص الأكاديمية الفرنسية ولم تتطرق إلى التماس العربي الإسرائيلي، ما يزيد من جانب الفرجة الهامشي للحدث لا جانب المتن.

لا أعرف ما إذا كان باستطاعة أمين معلوف التهرّب من تلك المقابلة بصفته مثقفا فرنسيا عضوا في أكاديمية “الخالدين” الفرنسية. لم يتحدث الرجل عن ظروف تلك المقابلة واكتفى بتعليق فيسبوكي مقتضب للردّ على الصدح الذي تناهى له من بيروت. وليس مطلوبا منا أن نطالب معلوف بموقف ضد التيار في فرنسا، فقط لأن في جيناته البيولوجية ارتباطا بمنطقتنا. لم نعرف للرجل أطروحة عروبية أو نزوعا قوميا أو ميولا عالمثالثية أو حتى تحدره من نسل يقاتل في فلسطين، حتى نستفيق على فعلته التي لم تعد معزولة لا سابقة لها.

طالما اشترط ضيوف الفضائيات العرب ألا يكون حوار مباشر بينهم وبين ضيوف إسرائيليين. بعض هؤلاء فلسطينيين تفاوضت وتحاورت قيادتهم (في عهد أبوعمّار وبعده) وأفضت إلى أوسلو. أما الحوار بين فصائل غزة والإسرائيليين فهو جار لدواعي ترتيب يوميات علاقات القطاع بالسجان الإسرائيلي، فيما أقر العرب مبادرة سلام تقتضي التفاوض والكلام والحوار، بعد أن تمّ مثل هذا مع مصر والأردن وأنتج معاهدات سلام. بمعنى آخر أن الكلام جار رسميا، وعلى قدم وساق، بين العرب والإسرائيليين، ناهيك عن ذلك غير الرسمي الذي يجري تحت أضواء المؤتمرات الدولية.

اقرأ أيضاً: الإعتراض الشيعي ما عاد رأياً.. بل صار رقماً

ليست المشكلة في أن تتكلم مع عدوك، المشكلة في ما تريد أن تقوله لعدوك. ولن يعني الكلام مع جهات إسرائيلية قبولا بأمر إسرائيل الواقع إذا كان متن الكلام يرفض هذا الأمر وهذا الواقع. ثم إن المشكلة الأكبر تكمن في الخبث الذي يقيحه الممانعون الغاضبون من خطيئة أمين معلوف، وهم الذين يباركون كل يوم تدمير البراميل لمدن سوريا ويصفقون بإعجاب لا متناه لعبقرية الطغاة وسواد ما يرتكبون. وما تريده جوقة الممانعة هو انتهاز أي فرصة عارضة ما وراء البحار من أجل تغطية روائح العفن في وسط البيت الكبير.

سنتحفظ كثيرا على ظهور أمين معلوف على شاشة قناة إسرائيلية، لا بسبب جذوره اللبنانية وهو الذي يحلق في العالمية ويقرع أبواب “نوبل”، بل بسبب كونه كاتبا فرنسيا إنسانويا لا يجب أن تفوته مناسبة كهذه لتثبيت انتقاد لممارسات الدولة المحتلة الوحيدة في العالم، على حدّ ما عبّر عنه عمدة تل أبيب بعد ساعات على عملية إطلاق النار الأخيرة في المدينة.

اقرأ أيضاً: مقابلة أمين معلوف تشعل حربا على الفايسبوك

ضُبط أمين معلوف متلبسا بلقاء علني مع فضائية إسرائيلية. لم يقم بأي تواصل سري مع الموساد الإسرائيلي بأمر من قيادة بلاده، على ما كشف حديثا أحد ضباط المخابرات الإيرانية السابقين، ولم يدبّر صفقة سلاح على ما كشفته الـ“إيران غيت” من تسليح إسرائيلي لجيش الجمهورية الإسلامية آنذاك.

هم لا يطالبون معلوف إلا بالاعتذار، تماما كما لو اصطدم كتفه بكتف أحد المارة. نتحفّـظ على الحدث والحادثة ونعلم أن ظهـور معلوف على شـاشة إسرائيلية لا يؤخّر تحرير فلسطين لمن ينوي ذلك، لكنه لا شك / ربما يستفزّ فلسطينيين أحبوا معلوفا وكتاباته. نرجـو لأمين معلوف أن يجري مراجعة يطلعنا عليها، ونقول للرجل من حقّك أن تراجع وتتراجع، لكن إياك أن تعتذر لهؤلاء.

(العرب)

السابق
اللواء: هكذا تم التفجير والتحقيق مستمر مع رجلين
التالي
هذا ما تخفيه أبراج اليوم