ليصمت علي عواض العسيري

بينما كان ديفيد كاميرون يقضي اجازته الصيفية إلى جانب زوجته في إحدى الشواطئ الفارهة، كانت بروكسل تحترق، وكانت أنجيلا ميركل تجوب الدنيا بحثًا عن دثار يحفظ وحدة أوروبا ويعزز بريقها ورسالتها وقيمها، قالت: هذه ليست أوروبا التي أريدها، لن نغلق الحدود، ولن نُعلّق العمل باتفاقية شينغن، سنواجه الأزمة بعيون مفتوحة، إنه قدرنا .. وواجبي اللعين.

دفعت ميركل من لحمها الحي لقاء هذه القيم، هددها اردوغان بسيول بشرية تعبر بحر ايجه حال لم تسرع إلى تطويق التصويت على المجزرة الأرمنية، حاصرها اليمين الشعبوي من كل حدب وصوب: ميركل أغرقت بلاد الرايخ بمجموعة وازنة من آكلي القلوب والأكباد، وبات لزامًا علينا أن ننتفض وتنتفض معنا أوروبا المنكوبة. لم تستسلم، قالت المانيا أم الدنيا، وأم أوروبا الموّحدة، عظمتنا تكمن حصًرا في الإنسان وكرامته، وسأحمي عظمتنا بأشفار العيون.

يمكن للشعبوية أن تجتاح الدنيا، حصل ذلك في أوروبا وأميركا وجُل عواصم العالم، ذهب الناس نحو خيارات راديكالية مؤلمة لتنفيس احتقانهم ورغبتهم باقتلاع الواقع وتغييره. أميركا التي اقترعت لأفريقي كانت تمنعه من ركوب القطار، ذهبت بقدها وقديدها لترتمي في أحضان دونالد ترامب. تقول آخر الإحصاءات إن حملته الإعلامية قُدرت بأكثر من عشرة مليارات دولار لم يدفع الرجل منها فلسًا واحدًا. الجميع يهرول نحوه، واسمه بات يختصر جمهورًا عريضًا يضجّ بأدبيات تحتاج ألف لوثر كينغ ومليار أوباما.

فرنسا التي تباهي الكوكب بحرياتها وألقها وانفتاحها وتقدمها على سائر اترابها في العالم الأول، اهتزت تحت أقدام مارين لوبان وهي تجتاح المدن والقرى على وقع خطابها الشعبوي المتطرف، راح العالم بأسره يُحذّر من تغيير وجه فرنسا وأفول نجمها إلى الأبد، كان الاجتياح مريعًا، وكانت كل العيون تصبو نحو خلاص يُجنّب المعمورة مجنونًا يحبس الأنفاس ويعيدنا إلى زجاجة كسرناها منذ أمد بعيد.

الخطاب العاقل دونه كبوات كثيرة، هناك طبيعة بشرية تجنح دومًا نحو الخيارات الكاسرة، نحو الاصطفاف العامودي والارتصاف المؤدلج، الصعوبة تكمن في الامساك بناصية الشارع وتوجيهه، لا في التماهي مع شعوره الهادر بالانتقام العشوائي، هنا تمامًا يحضر منطق الدولة ومنطق العقل، وهنا تمامًا يكمن الفصل المبين: بين شعبوي يبحث عن زعامة في ظمأ الشارع، وبين زعيم يهرول خلف اقتلاع مسبباته.

اقرأ ايضًا: جمهور المستقبل يترقب: هل يطلق الحريري غدا مبادرة تجاه أشرف ريفي؟

يستطيع سعد الحريري أن يكون ديفيد كاميرون، أن يذهب وعائلته بعيدًا من الحريق، أن يستجم بهدوء على شواطئ الجنوب الفرنسي، وأن يزورنا صباح الرابع عشر من كل شباط ليلقي التحية على ثرى والده. يستطيع أيضًا أن يكون دونالد ترامب أو مارين لوبان، أن يستحضر كل الأدبيات الشعبوية والتحريضية، أن يخاطب الشارع بلغة الشارع، وأن يرقص معه بصخبٍ على حافة الهاوية، وأن يخرج وفي جعبته شعبية وازنة وهادرة. لكنه قرر أن يكون أنجيلا ميركل، وهو قرارٌ دونه أثمان تتخطى مماحكات قضم الأصابع أو تسجيل النقاط.

بالأمس خرج نبيه بري ليعلن الوقوف إلى جانبه ظالمًا كان أو مظلومًا، شعر الرجل بأن الحريري يدفع من لحمه الحي لقاء ربط النزاع وإعلاء كلمة الحوار وتبريد الرؤوس الحامية، أدرك بأنه يتلقى الطعنة تلو الأخرى على وقع جنون يجاح المنطقة برمتها. كذلك فعل نهاد المشنوق، شعر بمظلوميته الكبرى وبألمه العميق، أراد أن يُفرّج كربه وأن يرفع الضيم عن كتفيه، قال هي سياسة سعودية أدخلتنا جميعًا عنق الزجاجة، وكان لا بد أن نصمت لأننا ندرك بأنها سامية الأهداف، لكننا لم نعد نستطع أن نصمد وحدنا، لا بد أن نسمي الأشياء، وأن يتحمل الجميع مسؤوليته.

وحدها المملكة العربية السعودية منّ ردت بعنف على كلام ندرك جميعًا صحته، خرج علي عواض العسيري بردٍ مدمّر كان يمكن تجنبه، ثم ألحقه بردٍ آخر يفوقه عمقًا وتجريحًا، آثر الحريري الصمت، وكذلك فعل المشنوق. الرسالة وصلت: إذهب أنت وربك فقاتلا .. إنّا هاهنا قاعدون.

(beirut observer)

السابق
اسرار الصحف المحلية الصادرة ليوم الخميس الواقع في 9 حزيران 2016
التالي
ما لا تعرفعه عن الـ «يورو 2016»