وسائر البقايا

يوم الانتخابات النيابية العام 1972 عدتُ بعد الظهر إلى بيروت. والتقيت في بلدة لبعا النائب والمرشح جان عزيز، فتوقفت أسلم عليه. وبدل أن يمد يده اليمنى لمصافحتي، مد اليسرى في إلفة وحزن قائلاً: “فلنمض. لقد انتهى الأمر”.
عندما ايقن الخسارة، عاد إلى بيته وظل مقيماً على شرفته البسيطة الى حين وفاته. خسر مقعده بـ 45 صوتاً. لم يطلب طعناً. لم يبهدل الفائزين. لم يتوعد الخصوم. ولم “يحلل” المنطقة قلماً قلماً وبيتاً بيتاً. انتخبوا، وعادوا إلى بيوتهم، وخسر، وعاد إلى شرفته.
كان أحمد بهاء الدين، زين الصحافة العربية، يقول للناشئين من العاملين معه: لا تستعجلوا الكتابة في الأمور، الحقيقة أهم من السبق، والتفكّر أضمن من السرعة. وعملاً بهذه الأمثولة الذهبية، تمهلت كثيراً في الكتابة عن لبنان البلدي، الوطني، غير العابر كالعادة للقارات والوصايات والإملاءات برفع الايدي.
لبنان في مواجهة ذاته. لكن النتيجة ايضاً مؤسفة: إنه واحد في الحالتين. لكن الوصاية المحلية المستفحلة تظل أقل ضرراً وخراباً من شبكة الوصايات الخارجية. أقل ايلاماً، ولكن ليس أقل صلفاً وفجاجة وفوقية وإنكاراً لحقوق الآخر، باعتباره اقلية لا ضرورة لها ولا مكان له. ثقافة الالغاء تتمدد وتتجذّر وتعثر على ناطقين جدد باسمها: ضحايا الأمس! والرجاء العودة إلى ابن خلدون، مرجعكم في المقارنات، وكيف يقلد الملغى ملغيه.
تنقل ألين فرح (1) عن مصادرها في “الثنائي المسيحي”: “بل نحن وجّهنا صفعة وضربة قاصمة وقاسية لكل بقايا الاقطاع والنافذين المحليين”. ويصل المصدر، أو المصادر الكريمة، إلى انتخابات تنورين فيقول “ان المنطقة بالمفهوم العسكري تعتبر ساقطة سياسياً”.
شو جاب العسكري للسياسي؟ الجواب عند كلاوزفيتز، عالِم الحروب والاستراتيجيات. ووفقاً للصحافية فرح ومصادرها، لم يمارس الثنائي المدني الراقي شيئاً، فيما “مارس هادي حبيش في القبيات” مع رؤساء الاقلام ضغطاً رهيباً. وعاد فأكد ذلك رئيس “القوات اللبنانية” الذي رأى في حديثه إلى وليد عبود كُوَماً من الانتصارات، وكوماً من الهزائم، ونصراً مبيناً للغالبية الساحقة، متسائلاً: ما هو حجم خصومها، في أفضل الحالات؟ لا ضرورة للإجابة: لا شيء. ولا أحد.
علينا أن نختار في نهاية المطاف، بين لويس الرابع عشر، الذي قال الدولة انا، وشارل ديغول، الذي قال فرنسا انا. أي جميعها. رجالها واوادمها واقلياتها واكثرياتها المتحولة مثل ارجوحة الأطفال والحياة، يا طالعة يا نازلة.
كنا نعتقد أن لدى الدكتور جعجع اسلوباُ آخر لمخاطبة الهوام الذي اقترع ضد وحدانية “الثنائي”، وأنه لن يشارك في استرداد “القرار المسيحي” من دوري شمعون في دير القمر، وآل فرنجية في زغرتا، وآل سكاف في زحلة، وآل حرب في البترون. وكنا نعتقد أن عدوى الخطاب سوف تنتقل من “القوات” إلى “التيار”. نعتذر عن الخطأ.
تقول الين فرح ومصدرها مفرداته: “يرى التحالف الثنائي أنه اطبق على المنطقة بأكملها من جزين إلى القبيات، علماً أن ثمة جيوباً ما زالت تحت سيطرة بقايا الاقطاع الذين لن تقوم لهم قائمة في الانتخابات النيابية المقبلة”.
“اطبق”. “جيوب”، “صفعة”. “ضربة قاصمة”. “بقايا”. معمر القذافي كان يسميهم جراذين. وصدام حسين كان يسميهم “كلاباً ضالة”. من أين هذه المفردات؟ من حرب البوير؟ من حرب هتلر على روسيا؟ أين ومتى وكيف نشأ هذا القاموس الذي انتقل الآن إلى الصحافة اليومية المحترمة؟ تصور تنورين “ساقطة عسكرياً”. بأيدي مَن؟ من اجل مَن؟ بسبب ماذا؟
ثمة شيء لافت جداً في لغة “الثنائي المسيحي”: لغته غير مسيحية. ليس قبل المعركة فقط، بل بعدها أيضاً. وما بعدها كذلك. “ففي الانتخابات النيابية لن تقوم قائمة لبقايا الاقطاع”. وربما نسمع في المستقبل كلمة “فتات” أو دونها مما يرمى على الأرض.
يبلغ مجموع تلك البقايا نحو 40% من الناس. أو 30. أو 20. ومنهم “بيت افرام” الذين سقطوا في “عاصمة المشرقية المسيحية” مع انهم اكبر عائلة مسيحية مشغلة للناس عموماً، وأهالي المشرقية المسيحية خصوصاً. تلك هي خريطة حرب الوفاء، من “القبيات إلى جزين” وسائر البقايا. نحن في قريتنا خاض “الثنائي” معركته ايضاً على البقايا، ولكن انتصرت ماغي عيد، المقعدة الاولى تفوز بالخدمة البلدية.
شلّت ماغي عيد وهي صغيرة بسبب خطأ طبي. واختارت العمل الوحيد الذي تقدر عليه: التطريز. دائماً بخيوط البنفسج واشكال الزهر والزنبق. منافسوها سموا لائحتها “لائحة المكرسحين” بالآداب الجديدة الغامرة لبنان. ونحن أصبح لدينا اعتزاز إضافي، بعد الصنوبر والزيتون: بنفسج ماغي عيد.
لذلك، عندما تساءل الدكتور جعجع: “هل نادين لبكي خبيرة في المجارير”، آلمنا جميعاً. نادين لبكي خبيرة عطور وزهور وجمال في بلد كان فلّة الشرق وقرنفلة المتوسط، وأصبح مربعاً للزبالة. لم يكن أي من رؤساء البلديات التاريخيين في العالم، مهندساً.

اقرأ ايضًا: بعد فشل عون وفرنجية…رئاسة الجمهورية نحو شخصية مستقلة
لقد حان الوقت لمراجعة اخلاقية شاملة. اخلاقية بالمعنى “الوجودي” الشائع هذه الأيام. ولكي نفعل ذلك يجب أن نتأمل وجودنا جيداً، عناصر البقاء وعناصر العدم، عناصر الاستمرار وعناصر الهلاك. واتساءل: هل يجوز أن تكون “بيت افرام” العائلة التي تشغل كل هذا العدد من البشر؟ وهل يجوز ألا تمنحها “عاصمة المسيحية المشرقية” موقعاً بلدياً؟ وهل يجوز لسمير جعجع، تحت أي سبب أو حجة أو حدث أو موجب أو حقيقة أو دافع، أن يحارب دوري شمعون، الذي وقف وحيداً يبرئه من التحريض على اغتيال داني شمعون؟ هل هذه هي نتيجة خلوة السجن الذي أمضى فيه 11 عاماً، ظلاماً بالتأكيد، وظلما كما يؤكد دوري شمعون وبقايا الاقطاع؟
الاكثرية، ضئيلة أو كاسحة أو ساحقة، حسب التعبير الاكثر بشاعة، والذي لا يُستخدم إلا في البلدان المسحوقة، الاكثرية ليست فوزاً. الفوزالوحيد هو السعة ولغة الرضا ومفردات الألفة. وليس “الصفعة” و”الإطباق” و”البقايا” و”الساقطة عسكرياً”. ثمة سقوط وحيد هو السقوط النفسي.
اعطت طرابلس درساً نادراً، ولكن نرجو أن تنتبه إلى أنه درس مزدوج. اعطت درساً في استقلال القرار المذهل على رغم جميع العناصر المضادة، لكن الدرس الذي يجب أخذه هو أن في مقدور صندوق اقتراع أن يغير الف مرة، أكثر من تفجير مسجد أو اطلاق النار على الأرجل، أو حروب المحاور.
خرجت طرابلس بوجه مدني، نبيل، جميل وشديد الإصالة، تعبر بكل صدق عن آلامها القديمة وجروحها المزمنة والتجاهل الذي تعامل به منذ الاستقلال إلى اليوم. هذه مدينة جليلة وقويمة. تُركَت للريح والاهمال والفقر والنسيان. وتُركت تطالب بحقوقها كأنها تستجدي، لا يتذكرها أحد إلا في انتخابات يفوز فيها عن الموارنة سامر سعادة ويخسر جان عبيد، نائب العروبة في كل مكان، فكيف في هذه القلعة الحارسة؟
نتمنى أن تعود طرابلس من جميع المطارح التي ذهبت إليها. ليست كعاصمة ثانية، فهناك عاصمة واحدة هي بيروت، وبيروت هي لبنان. ولكن بحقها الذاتي ومكوناتها ومقدراتها التاريخية. وعسى أنها اكتشفت أفضل طرق العودة إلى الدولة التي طالما قصرت في حقها كما في حق سواها. لم تبخل طرابلس برجال الدولة على لبنان. ربما كان رشيد كرامي (2) أهمهم لكنه ليس آخرهم. ومن المصادفات أنها تذكرت نفسها في يوم ذكراه. وفي حياته لم يكن رشيد كرامي ممثل طرابلس أو الشمال، بل كان يمثل لبنان ليس بحدوده السائبة دوماً، وإنما بامتداده العربي وعقلنته الدولية وورعه الوطني.
كان هناك دائماً من يعيّن لطرابلس زعماءها. هذه المرة اختارت هي رجلاً يمثلها. وقد انتقته من بين صفوفها. رفضت لغة الثنائيات والتحالفات والإطباق والجيوب، لكي تقترع للفرد اشرف ريفي.

(النهار)

السابق
السوريات لسن في مجلس الشعب.. إنهن يجمعن الجثث
التالي
إعلامي يوّجه رسالة للرئيس الحريري وبالطرابلسي!