البلديات تشتت الطوائف

الإنتخابات البلدية الأخيرة لم تعبّر عن “إحتجاج” صاعق ضد الأحزاب الحاكمة، كما يتصوّر كثيرون. “بيروت مدينتي”، أشهر اللوائح اللبنانية وأنظفها، نزعت عن نفسها كل دسم سياسي، وقدمت نفسها بصفتها محايدة سياسياً. مع ان الذين صوتوا لها كانوا من المعترضين على هذه الأحزاب. والمقصود بالسياسة هنا ليس الإصطفاف إلى جانب أحد قطْبي 14 أو 8 آذار؛ إنما الرؤية، ولو الخلفية، لطبيعة النظام الطائفي الفاسد، التي تشكّل البلديات واحدة من أعمدته الخلفية.  تجاهل السياسة، في إنتخابات بيروت الإعتراضية، قابله فائض سياسي في أماكن أخرى، أبرزها طرابلس، حيث كان الموقف السياسي العميق، بكل “ثوابته”، هو الدافع إلى التشكيل والتصويت. الناخب الطرابلسي الفقير، الخارج لتوه من جحيم الإشتباكات اليومية مع مسلحي أبناء مذهب آخر، لم يصوّت من أجل إعادة بناء ما هدمته تلك الاشتباكات، أو مصالحة خصمه الأهلي، إنما صوّت من أجل “الثوابت” الحريرية، من أجل زمن ولى على حساب هموم الزمن الراهن وطرقه وأشكاله الجديدة. فائض تسييس أو حياد سياسي، الأول ربح في أماكن، والثاني لم ينجح، وإن انتصر معنوياً، في أماكن اخرى… ولكن الإثنين لم يخرقا السقف الذي يعشْعش تحته النظام السياسي، بكل مكوناته ومسالكه. والإنتخابات البلدية أعادت تموضع الطوائف، كل طائفة بموجة خاصة بها: وقْع “الاعتراض” على أحزاب الطوائف، كان له دويه الخاص داخل كل طائفة. أقل العصبيات تضرراً، الدرزية، خدمت الزعامة الجنبلاطية، فيما أكثرها تضررا، السنية، نالت من زعامة الحريري؛ تلتها العصبية المسيحية التي خرجت منها نصف منتصرة، ثم الشيعية، التي حافظت على تماسكها النسبي، فبقيت العصبية الأقوى من بين العصبيات. وبطبيعة الحال، كانت الإنقسامات داخل العصبيات الحاكمة هي الأشدّ لدى السنّة، تليها المسيحيين، والشيعة، داخل الثنائية الشيعية نفسها، ثم داخل أطرافها.

إقرأ أيضًا: الثنائية المارونية تسقط والثنائية الشيعية تترنح

نحن نتكلم هنا عن انتخابات بلدية، وإذا بنا نحلل موقع الطوائف بعد حصولها. نعم، ذلك ان “البرامج” البلدية التي تقدم بها القليل من اللوائح، وعلى رأسها “بيروت مدينتي”، لم تكن برامج، بقدر ما كانت تعهدات شاملة، كل شيء، أي لا شيء. برامج من دون أولويات (النفايات مثلا)، ولا اقتراحات بسبل التنفيذ، لا بل، مع غياب تام لبند، هو الشغل الشاغل لغالبية البلديات، أي اللاجئين السوريين. خصوصا ان معظم البلديات تنظم حضورهم وسكنهم وساعات تجولهم الخ. على اي حال، لم يكترث الناخبون بالبرامج؛ المتفاعلون منهم مع اللوائح الإعتراضية كانوا يريدون ان يعبروا عن سخطهم، فنالوا ما يريدون، من دون ان يتقدم مفهوم العمل البلدي بأية خطوة تجعل حياة الناس وأماكنهم أكثر رحمة مما هي عليه الآن. الدماء اشتغلت أكثر من البرامج. دماء الشهداء على رأسها. ولكن ايضاً، دماء العائلات والعشائر، الأكثر تفتيتا وتذريرا لمكونات المجتمع؛ وقد أخطأ من وصفها بـ”الاقطاع السياسي”، أو على العكس، بصفتها “تعبيراً عن المجتمع المدني”، “مناهِضة للسلطة”.

إقرأ أيضًا: الانتخابات البلدية فضحت حجم الثنائيات الشيعية والمسيحية!

عصبيات العائلات لم تعد اقطاعا سياسياً، إنما حالة تنظيمية، “روابطية”، تدافع عن مصالحها التي قد لا تكون بلدية تماماً. وهي بذلك سلطة متشكَّلة، لا تبغي إلا المزيد منها؛ فيما الأحزاب الحاكمة أصبحت مؤسسات عائلية شبه رسمية، تورَّث للأبناء والبنات أو الأصهرة. اما “المجتمع المدني”، فيحتاج الى تفنيد آخر، مطوَّل، حافزه سؤال عن شبكات العلاقات القائمة بينه وبين تعبيرات السلطة المختلفة. في النهاية، البلديات أضافت فوضى جديدة إلى القديمة، وخلفت وراءها الكثير الأسئلة: خرجنا منها بحالة اعتراضية، لن نزين الآن مدى قوتها، فالامر يحتاج الى وقت، الى مراقبة تطور هذه الحالة الاعتراضية، هي الثالثة في روزنامة الإحتجاج اللبناني: فاذا وضعت جانبا، الفعاليات اليومية الاحتجاجية على هذه أو تلك من القضايا المتفرقة، يمكنك رصد حالتين “وطنيتين” من الاحتجاج: الأولى كانت في شباط 2011، مع سلسلة التظاهرات الداعية إلى إسقاط النظام الطائفي، والثانية في آب 2015، مع تظاهرات الاحتجاج على تفاقم أزمة النفايات. فهل نحن الآن، مع البلديات، في سياق تراكمي، نوع من الملازمة اللبنانية لـ”الربيع” العربي؟ أم مجرد هزَّة، هزَّة عصا، تجدّد بعدها الأحزاب الحاكمة ألاعيبها، تستعيد عافيتها، حفاظا على مصلحتها، سلطتها؟ أم شيء بين الاثنين؟.

(المدن)

السابق
الإعلام السعودي يطالب الحريري بتوضيح حول كلام المشنوق
التالي
الأسلوب هو الرئيس