طرابلس: أوجعت كثيراً .. مَنْ أوجعها طويلاً!

ما ان إنتهت المعركةُ الإنتخابية في طرابلس ، والتي أسفرت عن فوزٍ مُبينٍ للائحة التي يدعمها الوزير ” أشرف ريفي” ، حتى بدأت القراءات والتحليلات في تداعيات وتأثيرات هذا الحدث الإستثنائي على المستوى السياسي في طرابلس ولبنان . فليس بالأمر الهيّن ، أن يهزم رجلٌ بمفرده ، قبيلةً يحكمها الإقطاع السياسي والعائلي والمالي ، اجتمع مشايخُها وسادتُها، واتخذوا قراراً بوضع حدّ لطموح ذلك الجنرال المتمرّس في العمل الأمني والاستخباراتي ، والهاجم عليهم في عقر دارهم ، لينافسهم على الزعامة والقيادة وإغواء القاعدة الشعبية التي توّهموا أنهم طوّعوها ودجّنوها ، الى ان صارت ، بعد طول إذلالٍ ، عاجزةً عن تشكيل أيّ خطرٍ على  زعاماتِ منتفخةٍ تخسر مصداقيتها ورصيدها الشعبي ، وتأتكل من داخلها ، بفضل مواقفها الرمادية وانتهاجها سياسة النعامة والإنبطاح ، الى ان أينعت وحان قطافها وأسقطتها إرادةُ الناس ، بالضربة القاضية في الإمتحان الذي يُكرم فيه المرء او يُهان .

طرابلس

عاملان إثنان ، إقتصادي وأخلاقي ، أتاحا الفرصة للوزير ريفي ، كي يحقق فوزه المباغت ، وكي يقوم بإنقلابه الأبيض على زعامات طرابلس التقليدية والهرمة والعاجزة عن مواجهة التحديات او التفكير من خارج الصندوق او المخاطرة باتخاذ أي قرارٍ قد يتسبب لها بأدنى خسارة :

أولاً : الحالة المزرية والمُهينة – إنمائياً واقتصادياً – التي وصلت اليها طرابلس التي تمثّل العصب السُنّي الأقوى في لبنان ، والأكثر بُعداً عن نفوذ حزب الله ، والأكثر رفضاً لمشروعه السياسي . فقد استقالت الطبقةُ السياسية من القيام بواجباتها في السعي الى تفعيل المشاريع التنموية والحيوية التي تنتظر منذ عقود ، التنفيذ او التفعيل او التطوير : المعرض ، المرفأ ، المطار ، المنطقة الاقتصادية ، محطة التسفير ، محطة التكرير ، الملعب الاولمبي … والتي يُجمع الإقتصاديون على انه من المتوقع ان يكون لها ، مردودٌ إنمائي واجتماعي ونفسي وأخلاقي هائل على وضع المدينة ، وعلى نقلها من حال الى حال .

ورغم وصول رموز هذه الطبقة الى أعلى المناصب ومواقع السلطة والقرار في الدولة ، الا انهم لم يلقوا بالاً الى مأساة أهل طرابلس ، ولم ينصتوا الى وجعهم وأنينهم وصرخاتهم ، بل أمضوا طيلة فترة ولايتهم في الحكومات المتعاقبة ، بالمشاحنات والصراعات والمناكفات ، بهدف تحديد مَن منهم يستحق لقب المرجعية السُنية الأولى في لبنان ، ومَن هو الخائن والعميل للنظام السوري ، ومَن هو صنيعة “حزب الله” ، ومَن سمح لما يسمّى “سرايا المقاومة” بإختراق الشارع الطرابلسي ، ومَن سكت عن سفك دم الشعب السوري وعن بلطجة اصحاب ” القمصان السود” ، ومَن باع دم الشهيد رفيق الحريري ، ومَن شقّ وحدة الصفّ السُنّي ….

وفيما كل هذه المهاترات والاتهامات المتبادلة ، مشتعلةٌ على قدمٍ وساق ،  كانت طرابلس تئنّ وتصرخ وتنازع وتحتضر ، وتتزايد فيها نسبُ الفقر والحرمان والبطالة ، ولا من مجيب . وكل ما فعلته هذه الطبقة السياسية المترهلّة ، هو انتهاجها سياسة العمل الخيري الذي يقوم على شراء ولاء بعض الناس ، بحبّة دواء او كرتونة إعاشة او قسطٍ مدرسي او وجبة إفطار في رمضان … وهذا العمل الخيري الذي تقوم به زعامات سياسات ترد أسماؤهم في  قوائم ” فوربس” بإعتبارهم من أثرى أثرياء العرب ، قد نجح في كسر شوكة المحتاجين ، وتحطيم كبرياء المعوزين ، وطحْن كرامة المحرومين ، وفي دفْع البعض من أهل المدينة – التي يقطن فيها اكثر من نصف مليون انسان ، غالبيتهم يعيشون تحت خطّ الفقر – الى اليأس والإحباط والهجرة في قوارب الموت ، الى حيث يعتقدون انه يوجد أمل وعمل وكرامة .

ثانياً : شعور أهل طرابلس ان مرجعياتهم السياسية المنقسمة بين تياريْ ٨ و ١٤ آذار ، باتت عاجزة عن التقاط نبض الشارع او مراعاة المزاج الشعبي ، وانها لم تكتفي بالوقوف موقف المتفرّج على مظلوميتهم : ملاحقةً واعتقالاً وسجناً وتنكيلاً ، بل هي تواطأت عليهم ، مع قوى الأمر الواقع والأحزاب التي تمتلك سلاحاً غير شرعي ، والتي باتت فوق المساءلة والمحاسبة والعدالة والدولة . وفي استحقاقاتٍ سياسية عدة ، رأى أهل طرابلس ، بحسرةٍ ما بعدها حسرة ،  ولاةَ أمورهم يهادنون ويفرّون من المواجهة ويقدّمون التنازلات تلو التنازلات ، لمصلحة تلك القوى والأحزاب التي خاضت معاركها ضد الحريرية السياسية ، عبر المغالاة المقصودة في ضرب سمعة المدينة وتشويه صورتها واتهامها بالتطرف والإرهاب ، الى أن أصبحت لقمةً سائغةً في فم الأبواق السياسية المأجورة التي صار شغلها الشاغل تلفيق الاتهامات والإفتراءات بأن طرابلس باتت بؤرةً للتطرف ، ودعوة الأجهزة الأمنية للبطش بها على طريقة النظام السوري ، خشية قيام إمارة اسلامية او داعشية فيها .

وفي الوقت الذي زحفت فيه جحافلُ ” حزب الله” تحت أعين كل أجهزة الدولة الأمنية ، الى سوريا ، لمناصرة طاغيةٍ بأمرٍ من الوليّ الفقيه بإيران ، وتحت شعاراتٍ مذهبيةٍ فاضحة ، وبغطاءٍ مسيحي وفّرته ورقةُ التفاهم بين عون ونصرالله ، كان أهل طرابلس الذين التصقت بهم تهمةُ التطرف ، مشغولين بالدفاع عن انفسهم أمام الرأي العام ، لإثبات انهم وسطيون ومعتدلون ، وليسوا داعشيين او ارهابيين ، وان طرابلس تمثّل نموذجاً في العيش المشترك الذي تجلّى في أبهى صوره ، بالتسابق الى تعليق أشجار الميلاد في وسط المدينة ، أمام عدسات التلفزة والإعلام المرتهن الذي ذبح المدينة واهلها ، بأخباره وتقاريره المضخّمة التي تناسب التهمة الجاهزة بالداعشية .

إقرأ أيضًا: هل وصلت إشارات ريفي «الحريرية»…. للحريري؟!

وفي الوقت الذي ترفع فيه كل الأطراف السياسية ، من سقف خطابها الطائفي والمذهبي الفاجر والوقح ، في دفاعها عن مصالحها وحقوقها المشروعة وغير المشروعة ، صار محظوراً على أبناء طرابلس ، مقاربة قضاياهم من زاوية مذهبية او دينية ، وفُتحت شهية جميع الاطراف ، لنهش جسد “الضحيّة” ، وتدفيعها ثمن جنون خصومها  واستكبارهم وحماقتهم وغبائهم . وهكذا راح المنافقون والطائفيون وتجّار الهيكل ، يبتزّون مرجعيات المدينة ، ويطالبونهم بتقديم التنازلات من رصيدها وحقوقها ، كُرمى لعيون الحسّ الوطني والعيش المشترك والمناصفة وحماية التنوع الطائفي … وغيرها من الأكاذيب التي إبتكرها المستفيدون من استمرار النظام السياسي الطائفي في لبنان : لقد سقط المغلوب أمام جبروت الغالب .

طرابلس تئنّ تحت وطأة الفقر والحرمان والبطالة ، وتدفع في الدولة الفاشلة والمتهالكة ، ثمن ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين والعدالة العوراء والقضاء المسيّس وتضاؤل احجام مرجعياتها السياسية ، ولا سيما “سعد الحريري” الذي تكتلّت على تحطيم زعامته الثنائيةُ الشيعية – المسيحية ، المتمثلّة بميشال عون ( فاوست لبنان ) الطامح بأيّ ثمن ، الى منصب رئاسة الجمهورية ، و”حسن نصرالله” الذي أرسل شبابه الى الموت في المستنقع السوري ، كُرمى لعيون النظام الإيراني .

إقرأ أيضًا: قطار «مدينتي» من بيروت الى بعلبك فطرابلس الاعتراض واحد

في هذا الوقت ، كان هناك صوتٌ صارخ – اعتُبر لاحقاً انه صوت نشاز لا يمثّل إلا نفسه ، ويجب خنقه وتأديبه – أخذ صاحبه الذي ظلّ ثابتاً على قناعاته ، قراراً شجاعاً بالمواجهة والمجابهة قولاً وفعلاً . اكتشف الكثير من اهل المدينة ان هذا الصوت هو صوتهم المخنوق ، وأنّ هذه المواقف تمثّلهم ، وأنّ بعضاً من كرامتهم التي داسها وبعثرها الفقرُ والقهر والمواقف الرمادية القاتلة وسياسة المهادنة والتقية والحسابات الضيّقة ، يمكن استعادتها .

حانت لحظةُ الحقيقة ، ودقّت ساعةُ المحاسبة والمساءلة . تمّ تشكيل لائحةٍ انتخابية إئتلافية فوقية من كل الأطراف التي تصالحت عشية الانتخابات ، رغم معارضة قواعدها الشعبيّة ، إما لتقاسم الحصص في قالب الجبنة البلدي ، او لترسيخ زعامةٍ أبويةٍ قائمةٍ على الزبائنية وتقديم الصدقات والمكرمات التي تعلّم فنون التسوّل والإستزلام والاسترزاق اللاأخلاقي .

وبعد فرز النتائج ، تبيّن ان طرابلس قالت كلمتها ، وانتقمت لنفسها ، وأوجعت كثيراً ، مَن أوجعها طويلاً  ، ولقنت زعاماتها درساً أخلاقياً لا يُنسى ، عن مصير مَنْ يدير ظهره للناس ، ليبحث عن مصالحه  العائلية ومجده الشخصي .

إستعلاؤهم وتخاذلهم وترفّعهم عن الإنصات الى صرخات وجع الناس ، هي التي أهدت الفوز الى الوزير ” أشرف ريفي” .  أفلا يبصرون ؟ أفلا يعقلون ؟ أفلا يعتبرون ؟!!!

السابق
ميشال عون يتوفى.. ونفي بالشعر
التالي
الحريري ردًا على جعجع: واقفين مع الي وقفوا معنا