الجنرال والميليارديرات الثلاثة

الكاتب جهاد الزين

كل هذا الانتصار المدوّي للجنرال أشرف ريفي لم يكن ممكناً أن يحصل لولا حضور مندوبي لائحة ريفي في جميع أقلام الاقتراع. هذا لم يتحقّق لـ”بيروت مدينتي”.

هذا الحضور وبالتالي القدرة على منع أي تلاعب هو سر الانتصار وإن كان ليس سببه الوحيد. السبب التالي هو طبعا الشعبية التي ظهر أنها خزينة ومحتقِنة التي باتت لريفي في مدينة هي العصب الرئيس الصافي للسُّنِّية اللبنانية.
لكنْ السيطرة على أقلام الاقتراع هي المفتاح الذي من دونه لا أهمية لأي انتخابات.
أشرف ريفي ليس فقط جنرالا وإنما جنرال مقاتل لا يُلْعب معه في زواريب طرابلس ويعرف بعمق الأجهزة الأمنية كأحد مؤسِّسَيْن لجهاز مخابرات كبير هو فرع المعلومات. هكذا ظهرت الشعبية “الريفية” في المدينة الزعلانة بأشكال مختلفة منذ تأسيس كيان لبنان الكبير والتي لم تشهد، كما ثبُت، نهضة إنمائية كبيرة إلا في العهد الشهابي وعبر زعيمها يومها رشيد كرامي.( كما كان الأمر في الطوائف والمناطق المسلمة الأخرى في العهد الشهابي ولا سيما عند الشيعة في المجال التعليمي).
إذن الدرس الأول من مفاجأتنا جميعا في طرابلس هو الحضور الكامل في أقلام الاقتراع بما لا يسمح بإضاعة الأصوات المكتسبة وليس كما يحصل من “إضاعة” عند الشيعة بشكل متواصل وعند الدروز أحيانا وفي طرابلس سابقا في العهد السوري ثم بعد 2005 في مناطق معينة.
لهذا صار بالإمكان أكثر بعد مفاجأة طرابلس إعادة التشكيك بانتخابات بيروت من زاوية ما عرفناه لاحقا أن “بيروت مدينتي” لم يكن لديها مندوبون في عشرات الأقلام ولا سيما في المناطق البيروتية المسلمة. إذن من وجهة نظر “ريفية” هل بات يجوز طرح الاحتمال الافتراضي التالي: فوز لائحة “بيروت مدينتي” لو كان لها حضور وبالتالي قدرة على المراقبة في جميع أقلام الاقتراع؟
لا أحد يستطيع أن يمنّننا.. ففي لبنان الانتخابات نزيهة حيث توازن القوى الأمني موجود على أقلام الاقتراع. لذلك كانت الانتخابات نزيهة في صيدا وفي جميع المناطق والقرى المسيحية وفي طرابلس وفي البقاع الشمالي (حيث الرقابة عشائرية ويربح “حزب الله” بالنفوذ المصلحي والشعبي) وفي مناطق الدروز عندما يتوفّر الانقسام التقليدي الذي زاد مؤخرا ولذلك شهدنا تنافسا حقيقيا في بعض المناطق: الشويفات، حاصبيا، راشيا. ولكن ليس في الجنوب الشيعي حيث أقلام الاقتراع ساقطة عسكريا بسبب السيطرة الأحادية بمعزل عن الشعبية الأكيدة التي لـ”حزب الله” و”حركة أمل”.
في الجنوب الشيعي والبقاع الشيعي معركة “حزب الله” هي منع التنوّع الانتخابي الخطر. حتى لو كان الأخصام أقلية. فالنظام الحاكم في الجنوب يعرف أن الأقلية الجدية ممكن أن تصبح أكثرية لاحقا. في الحياة السياسية الشيعية اليوم تُقتل البيضة لا الصوص، وأحيانا عند الضرورة الصوص لا الدجاجة. الحريرية حاولت ذلك لكن في المدن لا يمكن استحكام السيطرة الأمنية. أسامة سعد خسر فعلا في صيدا في انتخابات نزيهة في أقلام الاقتراع لأن حضوره كممثل لعصبية قتالية يمنع مصادرة أقلام الاقتراع. يصبح المعيار عندها، بمعزل عن الأسباب، هو الشعبية وحدها يوم الانتخاب. هذا ما حصل مع المفاجأة الريفية التي تمكنت من التعبير عن نفسها لأن اللعب بصناديق الاقتراع غير ممكن، على افتراض أن أحدا كان يريد ذلك في طرابلس.
المشهد اللبناني الآن بعد طرابلس يبدو كالتالي:
أول انكسار فعلي في سيطرة الحزب الواحد السني. هذا جديد وبنيوي منذ الخروج العسكري السوري. إذن عودة زعامات المدن والمناطق عند السُّنّة ولو بأسماء بعضها جديد. الآن الثابت الوحيد في الحريرية زعامة صيدا. في بيروت مشكوك فيها وفي طرابلس ضُربت.
عند المسيحيين الوضع التنوّعي رائع بمعزل عمن يتقدّم ويتأخر حاليا. كل قوى المجتمع المسيحي حاضرة. عند الدروز الزمن وأخطاء السلطة المديدة خفّفا قبضة الحزب الجنبلاطي على الطائفة، لم يعد الحزب الأوحد ولكنه أصبح الحزب الوحيد!!
“الحزب الأوحد” أي “الحزبان الأوحد” عند الشيعة مستمران كنظام سياسي أيديولوجي منافعي يسمح فقط في بعض المدن بليبرالية اجتماعية وليس سياسية وهو، فعليا شديد الصرامة، وهذا تعبير لطيف، إذا تهددت وحدانيته حتى بشكل محدود وجزئي. وأنصح بعدم الثرثرة الفارغة عن “دلالات” الاعتراض في الجنوب والبقاع الشيعيَّين لأن بلدية واحدة، واحدة، وفي قرية صغيرة، لم يسمح النظام الحاكم بسيطرة معارضين عليها، وحيث لاح هذا الاحتمال كان يمكن ليس للعنف فقط بل أيضا لما هو أسوأ أن يحصل.
الحزب الأوحد عند الشيعة المستند على شعبية أكيدة ولكنْ محروسة بنظام أمني دقيق والمرتبط بوضع إقليمي عند الشيعة وبحماية الأمن القومي الإيراني. هذا الوضع لا يُختَرق الآن.
الأمن القومي السعودي يُمسِك بسنّة لبنان. وهو، للمفارقة، ساهم جيلُه الجديد بإضعاف وحدانية الحزب الحريري إلى حد ليس فقط إضعافه بل أيضا احتمال تهاويه رغم رعاية السعودية لتوافق طرابلس كمحاولة لتلافي المزيد.
الجنرال ريفي سعودي طبعا. ومن قلب النظام. ولكنه أيضا ابن بيئة جديدة في الصدارة السياسية حتى الانتخابات النيابية. هو زعيم طرابلس منذ صباح أمس ليس أقل.

اقرا ايضًا: تسونامي ريفي يجتاح طرابلس.. وحرب وحبيش زعامتان راسختان
عسى أشرف ريفي يتصرّف عبر البلدية الكبيرة التي حصل عليها عكس الميليارديرات الثلاثة سعد الحريري ونجيب ميقاتي ومحمد الصفدي الذين خسروا في طرابلس. فقد أصر الميليارديرات أن الفيلانتروبيا ( أي العمل الخيري) هو الذي يلائم مدينة كبيرة بدأت زعلانة من لبنان الكيان ثم أصبحت زعلانة من الهامشية ثم من الحرب الأهلية السورية التي ترى فيها مظلوميةً لسنيتها والآن ومنذ مدة طويلة غاضبة من فقرها الشديد وخصوصا بعد انقسامها إلى طرابلس شرقية للفقراء والمعدَمين وهي التاريخية وطرابلس غربية ميسورة وهي الجديدة. في طرابلس تبدو المنطقة الغربية وكأنها تضم سكانا لم ينتقلوا فقط من الشرقية بل هربوا منها.
لكل ذلك كتبتُ سابقا أن المدينة الأخيرة في لبنان هي بيروت. المدن الأخرى عندما تفقد مسيحييها وتنوعها الثقافي والطائفي لا تعود مدنا من بعلبك إلى طرابلس إلى صيدا إلى صور.
المطلوب لطرابلس المشاريع المنتجة في بنية الاقتصاد والتوظيف والكفاءة وليس العمل الخيري الاستعطائي ولو في المساجد والجمعيات.
الفقر والحروب الأهلية والتهميش لا تغير المدينة فقط بل تلغي مدينيّتها.

(النهار)

السابق
بالفيديو.. طرابلس ترد على مصطفى علوش: ما كنا عم «نأرغل»!!‏
التالي
فواتير الرقة