طرابلس: شركاء في الجريمة .. حلفاء في المعركة !

ظهرت أول بلديةٍ كإطار للحكم المحليّ الذي يرعى شؤون العباد في طرابلس ، في عام ١٨٧٧ في عهد السلطان العثماني عبد الحميد . وقد توالى على رئاستها عددٌ من الشخصيات البارزة الذين تمكّنوا من تحقيق العديد من الإنجازات الإنمائية.
شقّ الطريق بين طرابلس والميناء ، ومدّ خطّ التراموي الحديدي بينهما ، ومدّ خطّ حديدي آخر بين طرابلس وحمص ؛ رصف الشوارع بالحجر الأسود او بالبلاط ؛ إنشاء الحديقة العامة ( المنشيّة) قرب ساحة التلّ ؛ توصيل المياه من نبعي رشعين وهاب ضمن أقنية حديدية ؛ انطلاق مشروع توليد الكهرباء من نبع قاديشا الذي أنار طرابلس في نهاية عام ١٩٣١ ؛ إنشاء شركة IPC في عام ١٩٣١ لنقل بترول العراق الى البحر الأبيض المتوسط … وغيرها العديد من المشاريع الحيوية التي انجزتها المجالس البلدية المتعاقبة ، ومكّنت المدينة من القيام بدور فاعل ومؤثَر في محيطها .
في مطلع السبيعينات من القرن الماضي ، تعرّضت طرابلس لعدة نكساتٍ وأزمات وخضّات أمنية أعاقت مسيرة نموّها وتقدّمها ، وأوقعتها في براثن الجمود والتدهور والفوضى العارمة ، وحوّلتها الى ساحة إشتباكاتٍ وتصفية حساباتٍ سياسية محلية وإقليمية لعدة سنوات : قيام دولة المطلوبين داخل الأحياء القديمة في عام ١٩٧٢ ، إندلاع الحرب اللبنانية في عام ١٩٧٥ ، وقوعها ضحية الاحتلال السوري الذي بطش بأبنائها وأذاقها الويلات ، حدوث ٢١ جولة عنفٍ ذات صبغةٍ مذهبية بين باب التبانة وجبل محسن ؛ تدفّق النازحين السوريين بعد إندلاع الثورة السورية …. كل هذه الأحداث الأمنية التي ترافقت مع ظاهرة التوسع العمراني وإزدياد أعداد القاطنين فيها ، ألحقت أضراراً جسيمة في إقتصاد المدينة وأبننيها وطرقاتها وبنيتها التحتية ومعالمها الأثرية والتاريخية ، عجزت المجالسُ البلدية المتعاقبة ، ولا سيما المجلس البلدي الحالي ، عن معالجتها أو عن وضع الخطط الهندسية والمشاريع والبرامج الإنمائية التي توقف التدهور المخيف الحاصل فيها ، والذي يعبّر عن نفسه في الإحصاء التالي : تبلغ نسبة الأُسَر المحرومة في طرابلس ٨٧ في المائة من عدد السكان ، وغالبيتها تقطن في أحياء وزواريب ” باب التبّانة” التي كانت تحمل لقب ” باب الذهب” ، ثم صارت تحمل لقب المنطقة الأكثر فقراً وحرماناً في مدينة طرابلس التي تمّ تصنيفها عالمياً ، على أنها المدينة الأكثر فقراً وحرماناً على حوض البحر الأبيض المتوسط . وأيُّ ذُلّ بعد هذا الذُلّ ؟! وأيُّ شعورٍ بالقهر يوازي هذا الشعور بالقهر ؟!
في ظلّ هذا الواقع الدراماتيكي  الذي تعيشه طرابلس، تخوض القوى السياسية المتهمة بكسر شوكة المدينة ، نهار الأحد القادم ، معركةً إنتخابيةً وُصفت بأنها معركة ” كسر عظم” . وقد تمّ تشكيل لائحةٍ إئتلافية ضمّت معظم التيارات السياسية التي تبادل أصحابها على مدى سنوات ، الاتهامات بالعمالة والخيانة والتبعية للمحاور الإقليمية وشقّ وحدة الصفّ السُنّي والمسؤولية عن تأجيج نار المعارك العبثية في الأحياء الشعبية الفقيرة ، وتسليح المقاتلين وتغذية الصراعات خدمةً لأجنداتٍ خارجية . ما يعني انه عندما حانت لحظة البيع والشراء والقطاف والحصاد ، وضعوا جانباً كل خلافاتهم وصراعاتهم وتناقضاتهم التى أدمت جسد المدينة ، واصطفّوا صفّاً واحداً ، بغية تأمين كراسيهم ومواقعهم ومراكز نفوذهم ، ومنعاً لإنكشاف أحجامهم الحقيقية في المدينة المنكوبة .
تناولوا العشاء معاً ، وضحكوا معاً ، وألّفت المصالحُ المشتركة بين قلوبهم المتنافرة ، وقواعدهم الشعبية المتناحرة . لم يتكبّدوا عناء إختلاق الوعود والعهود – كما درجت العادة – بتنمية المدينة ومحاربة ظاهرة الغبن والقهر والحرمان والفقر التي باتت ظاهرةً أصيلةً فيها ، بل جُلّ ما كان يشغلهم في البازار الإنتخابي ، هو تلميع صورتهم الخارجية ، عبر تكرارهم الببغائي لبعض العناوين البرّاقة التي هي من ” عدّة الشغل ” ، والتي ليست من صلب العمل البلدي ، ولا تمتّ الى الكارثة او الفضيحة الإجتماعية والإقتصادية والبيئية ، بأيّ صلة ، مثل : ضمان تمثيل الأقليات في اللائحة ، الحرص على التنوّع الطائفي والسياسي ، تكريس صيغة العيش المشترك … وغيرها من العناوين القشرية والتجميلية البرّاقة التي لا تمسّ جوهر الموضوع ولبّ المشكلة ، ولا تجيب عن الأسئلة الملّحة : بالنسبة للتنمية شو ؟! ولماذا تقدّمت كل المدن والقرى المجاورة والبعيدة ، وتقهقرت العاصمة الثانية ؟!
الحريري وميقاتي
لقد أوحوا لأهل المدينة الغارقين في لجج اليأس والإحباط والبطالة والفقر والعوز ، انهم شكّلوا فريقاً متجانساً من الطاقات الشابّة ، دون ان يوضحوا لهم كيف ومتى تجانست الأضداد والتناقضات ؟ وعلى أساس أي مشروعٍ او رؤيةٍ مستقبلية أو برنامجٍ إنقاذي تآلفوا واتفقوا ؟ لم يجرؤ أحدّ من الإئتلافيين على الجهر بالحقيقة المعروفة لدى القاصي والداني ، الجاهل والمتعلم ، الطفل والراشد ، وهي انهم اتفقوا على المحاصصة التي تقوم على توزيع المغانم بحسب الأحجام : الرئيس نجيب ميقاتي رفع سقف مطالبه ، وتسلّح بنقمة الشارع الطرابلسي على الأداء السياسي المتخبّط لتيار المستقبل ؛ الرئيس سعد الحريري خفّض سقف شروطه ، ورضي مكرهاً ، بتقديم تنازلاتٍ لخصمه السياسي ؛ وبقية القوى السياسية والدينية ( كرامي ، الصفدي ، الجماعة الاسلامية …) حجزت لنفسها بعض المقاعد ، ودخلت راضيةً مرضيةً الى جنّة التوافق الذي ظهر ان ابرز أولوياته ليس الإنماء الذي لا وجود له على خارطة السياسيين ، ولا في أذهانهم ولا في تحالفاتهم ، بل تجميع القوى لقطع الطريق على تكريس زعامة الوزير “أشرف ريفي” الذي بات يشكّل حالةً سياسيةً متمايزة في طرابلس ، ولا سيما بعد خلافه مع تيار المستقبل ؛ والذي نجح بمواقفه الجريئة ، في خلق حيثيةٍ شعبية لا يُستخفّ بها ، بدأت تقلق وتؤرَق الثنائية السياسية في طرابلس .
وفي المقابل ، في معركة ” تحديد الأحجام” ، فإنّ ما يشغل بال الوزير ريفي الذي يواجه منفرداً تحالفاً مكوّناً من كل القوى السياسية والدينية في المدينة ، ليس الفوز ببعض المقاعد في المجلس البلدي – على أهمية هذا الإنجاز – وإنما تسجيل حضوره من خلال نسبة الإقتراع التي ستحصل عليها اللائحة المدعومة منه ، كلاعبٍ أساسي على الساحة الطرابلسية ، وكحالةٍ شعبية يصعب إلغاؤها او سحقها .
يقول أينشتاين : ” الغباء هو ان تفعل نفس الشيء مرتين ، بنفس الأسلوب ونفس الخطوات ، ثم تنتظر نتائج مختلفة ” .
وبناءً على هذا التعريف ، ورغم الفشل الذريع ، بل والمنقطع النظير ، الذي أنتجته تجربةُ التوافق البلدية في عام ٢٠١٠ ، فقد كرر اللاعبون السياسيون الذين لا يملكون مشروعاً إنقاذياً لطرابلس – لا الأمس ولا اليوم – استخدام نفس الخدعة السابقة ، وأوقعوا انفسهم والمدينة في شرَك بدعة التوافق المعطّلة التي أتت بالمجلس البلدي الحالي الذي جسّد أداؤه الكارثي ، كل عناوين التعطيل والشلل والنزاع والخصام ، حتى صار رمزاً فاقعاً للعجز والإخفاق والفشل والفساد وهدر المال العام ، وعاراً أبدياً مسجّلاً حصراً بإسم أعضائه اولاً ، ورُعاتهم السياسيين ثانياً.
لا شيء جوهرياً تغيّر في التوافق الحالي ، سوى الجهة التي سمّت او فرضت اسم رئيس اللائحة ، أما ما عدا ذلك ، فإن تغييب البُعد الإنمائي الجدَي ، هو الحاضر الأبرز في اللائحة التوافقية ، وهذا التغييب ليس عملاً عفوياً او ارتجالياً ، بل هو قرار قديم متخذٌ مع سبق الإصرار على التفقير والتخريب والتهميش ، وله أهداف واضحة : إبقاء أهل طرابلس غارقين في الحرمان والحاجة ، حتى يسهل تحويلهم الى متسولّين على أعتاب الساسة ، او الى أبواق وألسنةٍ تلهج بالدعاء لهم ، وشكرهم على مكرماتهم المذلّة ، او الى رصاصٍ في بنادقهم عندما يحتدم الخلاف والصراع والتنافس بينهم على المواقع والمناصب ؛ او الى أحجارٍ وبيادق في لعبة شطرنج ، يتنافسون فيها على تحريك الناس كيفما تشاء مصالحهم وأجنداتهم ، كي يبقى الزعيم ( الملك) في مكانٍ آمنٍ يحميه من الإنكشاف الذي يعرّضه للإقصاء ( الأكل) ، وبالتالي الخروج من اللعبة ( كش ملك ) .
اذا كان الهدف من خوض المعركة البلدية في طرابلس ، هو تحديد الأحجام والأوزان ، بعيداً عن أي هدف تنموي يكفّر الساسة من خلاله ، عن ذنوبهم ومعاصيهم وخطاياهم المرتكبة في المدينة ، فلا داعي لهذه المعركة ، ولا لهذا ” العرس الديمقراطي” ،  ففي ضمائر أهل طرابلس ، كل المتصارعين على حلبة المدينة ، ينتمون الى فئة ” وزن الذبابة” ، والمنتصرُ فيها خاسرٌ ، لأن الجميع قد سدّد لكماته وضرباته الموجعة الى رأسها وقلبها وعمودها الفقري ، حتى سقطت إنمائياً ” بالضربة القاضية” ، وباتت عاجزة عن النهوض .. ٌ إلا بمعجزةٍ إلهية !
السابق
بنت جبيل: هكذا انقلبت عاصمة حزب الله عليه.. بـ «الثلث الضامن»
التالي
⁠⁠⁠القوات الأمريكية تظهر بسوريا مع الأكراد.. وأنقرة تندد