في «روضة الشهيدين»: الموت تجهيز فني يُداخل الحياة وعادياتها

شهدت مقبرة “روضة الشهيدين” في الضاحية الجنوبية لبيروت، في السنوات الأخيرة، كثافة في مواكب التشييع لقتلى “حزب الله”، الذين يتساقطون في الجبهات السورية، آخرهم وليس أخيرهم مصطفى بدر الدين الذي سقط في تفجير “غامض”.

هذه المقبرة التي نشأت مع بداية حرب السنتين، وتضم الآن بين أضرحتها أكثر من ألفي شاهدة تحمل كلمة “شهيد”، شهدت أطواراً من الموت و”طبقات” من الشهداء، هي على غرار أطوار الحرب وطبقات المتحاربين. ففي غضون أربعة عقود، تناوبت على المقبرة تحولات سياسية وأيديولوجية ساهمت في تشكيلها هندسة ورموز وعلامات. إذ أن عالم الموتى هنا ليس منقطعاً عن عالم الأحياء، فهو متبدل يضج بالإشارات والمعاني، والأضرحة هنا هي على صورة مجتمع الأحياء، أحزاباً ودعاوى وتيارات وأهواء.

و”حزب الله” الذي تفوق على باقي الأحزاب والتنظيمات اللبنانية في “إدارة” عالم الأموات – الشهداء، تنظيماً واستثماراً، ورصيداً ومنفعة، طالما أن الموت و”الاستشهاد” هما في صلب عقيدته الدينية.. استطاع أن يطبع تقاليد التشييع والتأبين والدفن والتعازي وتشييد الأضرحة بطابع خاص، لم تعهده الطائفة الشيعية قبلاً. بل أن “العلاقة” مع أولئك الشهداء وأضرحتهم، أخذت بُعداً طقسياً يمارسه مجتمع “حزب الله” وأهله، هو بُعد تعبوي وتعبّدي، يشد أواصر هذا المجتمع ويميزه عن الأغيار، ويقلل من وحشة الموت وغربة الأموات، فيجعل “الشهداء” حاضرين دوماً، هنا في قلب يوميات الناس وأمام عيونهم وفي منازلهم وشوارعهم وأحاديثهم، ولا يغيبون عن شاشة محطتهم التلفزيونية، حتى يضمحل الفارق بين العالمين، ويصير الموت هكذا أليفاً وعادياً وكثيراً بكثرة الناس، وربما مرغوباً إذ يُعلي من شأن “طلابه” و”عشاقه”.

وإذا كان يصح وصف “حزب الله” بأنه أولاً “حزب الشهداء”، وبأنه أيديولوجيا الصعود إلى الجنة ودنيا حور العين، إلا أنه لم يأتِ بجديد في معادلة أن “الشهداء يصنعون النصر”، بالمعنى السياسي والحزبي، والتحريضي والتعبوي، فقد سبقته إلى ذلك كل الأحزاب والميليشيات اللبنانية والعربية في حروبها المتناسلة.

مقابر “علمانية”!
أذكر تماماً ما حدث هناك في بنت جبيل، العام 1975، حين جهّز الحزب السوري القومي الاجتماعي قبر أبي، الذي “استشهد” في معارك سن الفيل – النبعة. كان وقع كلمة “الشهيد” حينها ما زال مهيباً. وكانت مراسم الدفن حاشدة، بالغة الصخب والصراخ، مكللة بنثر الأرزّ ومئات الرشقات الغزيرة من بنادق الكلاشينكوف.

بعد يومين من الدفن “الاحتفالي” والهستيري، صعدت إلى “الجبّانة”، لأزور القبر برفقة عمتي، التي لم يعجبها ما صنعه الحزب به، إذ أحاطه بقفص حديدي أسود، مرصّع بالزوابع الحمراء من جهاته الأربع، فيما ارتفع القبر الرخامي ثلاث درجات أنيقة، حُفر عليها، عدا الآيات القرآنية المعتادة على صفحة الضريح، كلمات لـ”الزعيم” أنطون سعادة: “إن أزكى الشهادات هي شهادة الدم”.

اختاروا موضعاً للضريح في أعلى المقبرة، ليبدو هكذا منظوراً من الجهات كافة، بارزاً بقفصه الحديدي العالي، كقبر بكامل أبهته. فالحزب أراده تجسيداً في عيون الناظرين لمدى توقيره الشهداء، ولعظمة مكانتهم في وجدان “رفقائه”، وخلودهم في القلوب والذاكرة. هو بهذا المعنى، يمنحهم “مرتبة” ترفعهم عن الأموات العاديين.

كان ذاك، على الأرجح، من بدايات الإدارة الحزبية للموت والأموات، البدايات الأولى لمأسسة “الشهداء”، بوصفهم ذخيرة ورصيداً و”استثماراً” بالدم. وربما كان امتعاض عمتي مردّه إلى ما ابتدعه الحزب في بناء القبر وهندسته وزينته، بما يخالف المعتاد الديني، بل ويزاحمه، فيكون موضع كلام سعادة مجاوراً لآية “وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ..”، وهذا ما قد يحسبه أهل البلدة تجديفاً أو مروقاً على الدين والتقاليد والأعراف كلها.

في ذاك الزمن، حقبة الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية، لم يكن أهل الجنوب الشيعة متشددين دينياً، ولا بعيدين عن المناخات النضالية والحزبية ذات التوجهات العلمانية، وغالباً ما كانوا يتساهلون مع “البدع” الجديدة المتأتية من لغة تلك الأحزاب وأدبياتها، لكن ليس إلى حد تسليم مراسم الموت والدفن والمقبرة وبناء الشواهد لتلك الأحزاب.

الشيوعيون مثلاً، لم يستطيعوا حفر رموزهم وشعاراتهم على رخام أضرحة شهدائهم، إلا في القرى التي يغلب عليها الشيوعيون، وفي معظم الحالات يتوجب أن يكون أهل “الشهيد” شيوعيين أيضاً كي يكون القبر هكذا، معلماً شيوعياً مزيناً بالمنجل والمطرقة. وحتى على هذا النطاق الضيق، لم تسلم تلك الأضرحة “الشيوعية” من التخريب والتحطيم، بعد العام 1982، حين سيطرت حركة “أمل” على قرى الجنوب.

الخطبة السياسية في “الحسينية”
لكن ما يُحسب للأحزاب والمنظمات الفلسطينية واللبنانية هو نجاحها في الاستيلاء على طقس التأبين في “حسينيات” الجنوب، وهو – حسبما يذكر وضاح شرارة – أمر قديم نسبياً ابتدأ بعد “النكبة” الفلسطينية، خصوصاً مع صعود التيارات القومية العربية، الناصرية والبعثية، التي توسلت “الخطبة السياسية” في دعاويها وعملها “الجماهيري”. فكان أوائل الخطباء من خريجي الجامعة الأميركية، ممن تمرسوا في الكتابة والتكلم بالفصحى، وبعدهم أتى خريجو دار المعلمين العليا، إضافة إلى خريجي المقاصد الإسلامية في صيدا، وهم على الأغلب ممن انضووا في حركة القوميين العرب والبعث والناصرية. فكانت الخطب حينها تحمل أفكار وعبارات ساطع الحصري وميشال عفلق وقسطنطين زريق.. وطابق هذا هوى أهل الجنوب الذين ابتدأوا في مناسبات عاشوراء مثلاً يرون في مأساة فلسطين شبهاً وتوأمة بالسيرة الحسينية، ويرون في مظلومية الأمة استمراراً لمظلومية “أهل البيت”.

وعلى هذا، كرست الأحزاب تقليداً جديداً في التأبين، فأُضيف إلى الشيخ والمقرئ، “الخطيبُ السياسي” في قاعة الحسينية. وسرعان ما ستعمل حركة الإمام موسى الصدر، منذ منتصف الستينات، على منافسة الأحزاب في الاستيلاء على منابر الحسينيات في مناسبات التأبين، من موقع استعادة الطائفة أولاً، و”تنقية” البيت الشيعي من لغات الأحزاب الدخيلة وأفكارها غير الدينية، واسترجاع سلطة إدارة الأموات وأضرحتهم وطقوس التأبين والتشييع، وميكروفون الحسينية ومكبر صوت المئذنة، ولغة التعزية والنعي.. وكان هذا من أهم ميادين المنافسة الضارية والعنيفة بين حركة “أمل” وباقي الأحزاب، والتي ستظهر نتائجها لصالح الحركة منذ بداية الثمانينات. فبسبب العلاقة العضوية بين الحركة و”المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى”، سيتاح للحركة مدّ سلطتها ونفوذها على مؤسسات الطائفة وأوقافها ومقابرها وحسينياتها ومساجدها. وفي زمن الحركة، ستكون أضرحة شهدائها مزينة بشعاراتها من غير تحرج أو غرابة، طالما أنها منسجمة أصلاً مع عاديات التدين الشيعي اللبناني التقليدي.

الدعوة الخمينية
يقال ان الجنوب شهد، العام 1977، أي قبل الثورة الإيرانية، أول خطبة للدعوة الخمينية، أثناء تأبين أحد المتوفين بقرية البابلية. كان ذاك إيذاناً بمستجد كبير سيطرأ على عالم شيعة الجنوب وطقوسهم وعقيدتهم ولغتهم.

سيتوارى، بعد العام 1982، خطباء الأحزاب اليسارية والقومية من حسينيات الجنوب، وسيحل محلهم خطيب حركة “أمل” المنسجم أكثر دينياً وأهلياً مع الشيخ والمقرئ والجمهور العائد إلى هويته وملته، بعيداً من ماركس وعفلق وسعادة وعبد الناصر.

ما ستأتي به الخمينية، خصوصاً في اصطناع المناسبات، وفي الدعوة نحو “الأصول”، وفي استنهاض النزعة نحو التدين، وفي تذكر المنسي من معتقدات وممارسات و”أعياد”، وفي إدخال شعائر رائجة حصراً بين غلاة الشيعة ببعض العراق وإيران، أو ابتكار الجديد منها والمؤسطر، سيكون باعثاً للمزايدة على حركة “أمل” وتشجيعاً على الغلو، وتعبئة أشد تنظيماً وتأطيراً للجمهور الشيعي وأكثر وضوحاً أيديولوجياً.

ترتسم في مقبرة “روضة الشهيدين” علامات التحول التي أتت بها الخمينية و”حزب الله” عند الحدود الزمنية الفاصلة بين أضرحة الثمانينات وما قبلها من جهة، وأضرحة ما بعد التسعينات وما تلاها، وصولاً إلى الفاصل الحاد في طبقات “الشهداء” والأموات، الذي نشأ حديثاً مع تلك القاعة الضخمة، الملاصقة لمبنى مجمع موسى الصدر، داخل “روضة الشهيدين”.

“تجهيز” الأضرحة
بتجوالنا داخل المقبرة، نلحظ على الفور التقليد الجديد، الذي ابتدأ في التسعينات على الأرجح، إذ جعلوا لكل قبر خزانة زجاجية، تحوي على الأغلب نسخة من القرآن، صورة شخصية مؤطرة للمتوفى، مجسماً صغيراً للكعبة، موقد بخور، زجاجة عطر، مسبحة، كتيبات، مقتنيات شخصية، علبة محارم، مكنسة صغيرة وأدوات تنظيف.. بالإضافة إلى تظليل الضريح بمظلة ثابتة أو خيمة بلاستيكية بعضها مطبوع عليه صور كربلائية وشعارات: “يا حسين” أو “لبيك يا زينب”، وبعضهم عمد إلى تشييد غرفة أشبه بصالون أو غرفة جلوس يتوسطها قبر أو أكثر، مزينة بالآيات والصور والزهور البلاستيكية. غرفة تصلح لجمع الأهل وتمضية الوقت، صلاة أو تلاوة أو للشجن والحزن، طالما أن “زيارة” القبور أخذت بُعداً جديداً، بمثابة ممارسة عقائدية، شعيرة تبدو متناسلة من تقليد زيارة المقامات والعتبات المقدسة. فـ”الشهداء” باتوا بجوار آل البيت. ربما لهذا السبب، واجب “الزيارة” لم يعد متباعداً أو موسمياً (في صبيحة الأعياد مثلاً)، بل هو بات متواتراً وجزءاً حميماً من عاديات العيش والمواقيت الاجتماعية. فالقبر والميت ليسا في أرض الوحشة، ولا في جغرافيا الغياب. لذا، لم تعد القبور مجرد أضرحة رخامية وشاهدة، هي “مقام” مصغر، نصب تذكاري يشبه فن “التجهيز” (installation art)، يلبي حاجة الأحياء لاستحضار ميتهم وإبقائه بينهم، بقدر ما يلبي دعاوى “حزب الله” في طلب “الشهادة” والإكثار من “الشهداء”، تتويجاً للإيمان وخلاصاً من فساد العالم واستعجالاً في مجيء المهدي وزمنه.

عمران جديد
يبدو أن “حزب الله”، في تشييده تلك القاعة الجديدة داخل “الروضة”، أقام فاصلاً تاماً بين المقبرة العمومية ومقبرته الخاصة، ليس فقط للفصل بين “طبقات الشهداء” ومراتبهم، بل تدشيناً لنوع جديد من الأضرحة، وهندسة مغايرة للقبور. هي قبور “منظمة”، موحدة البناء والحجم والطراز، مرتبة بدقة في فضاء القاعة، المكيّفة والمنمقة بالإضاءة المدروسة. هي هندسة كصورة طبق الأصل عن الصفوف العسكرية المنضبطة في استعراض مهيب.

إقرأ أيضًا: جمهور حزب الله يشكك ويسأل: من قتل مصطفى بدر الدين؟!

عمران القاعة يحجب المجمّع الرسمي الذي يدير “روضة الشهداء” (حركة “أمل” والمجلس الشيعي والأوقاف)، ويتبوأ واجهة المقبرة، وقد تم تشييدها على طراز المقامات الشيعية المقدسة، بهندسة تجمع المسجد والحسينية والعتبة المقدسة. ويبدو أنها تضم فقط صفوة “شهداء” الحزب، من ابن أمينه العام هادي نصرالله، إلى عماد مغنية ومصطفى بدر الدين ونخبة القادة الذين سقطوا في السنوات الأخيرة. وإمعاناً في الاستيلاء أو الاستحواذ على المقبرة، وتهميش حركة “أمل” والإدارة الوقفية، عمد الحزب أخيراً إلى “التلاعب” بالاسم. فأصل التسمية، أي “روضة الشهيدين”، يعود إلى أول عملية دفن في حرش الصنوبر ذاك للشقيقين مصطفى ومهدي هاشم (14 و16 سنة) في العام 1975. وأعلن الإمام موسى الصدر، التسمية هذه، بعد فترة. لكن اليوم، نجد أن “حزب الله” وضع في القاعة صورة واحدة تجمع عماد مغنية ومصطفى بدر الدين، مذيلة بعبارة “روضة الشهيدين”، فتصبح التسمية منسوبة إليهما وحسب.

القاعة العابقة بالعطور والبخور، البالغة النظافة، المكتظة بوجوه الأموات الناظرة كلها على نحو داهم، دفعة واحدة، في الزائرين.. يبدو أن الحزب أرادها هكذا “مزاراً”، نصباً تذكارياً وتعبوياً، لا يخلو من شبهة التقديس طالما أن بعض “ساكنيه” يحملون صفة “القديسين”، بحسب العبارة الشهيرة لحسن نصرالله. وطالما أن “مؤسسات الموت” هي أهم مؤسسات الحزب المدنية، أي تلك التي تعنى بالشهداء (ومقابرهم) والأيتام والأرامل والعوائل والجرحى والمعوقين.. هي كلها مداميك ديمومة الحزب، فالدم المراق وحده ما يحفظ عصبية الأهل والجماعة، بحسب دعوة الخميني: “أقتلونا فإن شعبنا سيعي أكثر..”.

إقرأ أيضًا: بدر الدين وحوادث الطريق

لا تخلو القاعة على مدار الساعة من الزوار على سبيل “التبرك” ربما. بل أن ثمة صفحة فايسبوكية خاصة بهذه القاعة، يتشارك زوارها، الصور، وكتابة “الستاتوسات” من نوع: “عقبال ما نشوفكن حدن يا إخوتي..” أو “مات عطشاناً، فدارت السنين إلى أن أصبح العالم يتعطش لزيارته كل يوم”.

والحال أنه، بين عمران القتال والحرب، على طراز معْلم “مليتا”، وعمران الموت على طراز قاعة الشهداء هذه، تتمظهر إنجازات الحزب في ابتداع نهج حياة جديد للشيعة اللبنانيين، كطائفة منذورة لكربلاء لانهائية.

(المدن)

السابق
بالصورة: نسب الاقتراع حتى اللحظة.. ومقاربة بين 2010 و 2016
التالي
إقفال صناديق الإقتراع.. وهذه هي المخالفات