الدول المتقدمة ليست مثالا لمعالجة مشاكل نفاياتنا.. والمانيا نموذجا

يعتقد البعض في الدول النامية وبينها لبنان، ان النموذج الغربي، ومهما كان، هو نموذج متقدم ويجب ان نعود اليه كمرجع في كل خياراتنا الفكرية والعلمية والتقنية. وهذا بنظري خطأ تاريخي فادح، يجب تصحيه بسرعة، قبل ان نصبح حقل اختبار لتكنولوجيات قد تكون قاتلة، بعد ان تحولنا الى اسواق استهلاكية كبيرة، طمرتنا بنفاياتها. في برلين، كما لاحظنا في زيارتنا الأخيرة، مروحة واسعة من الخيارات التقنية التي تم تطويرها، لاسيما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية واستسلام المانيا النازية، ومحاولة تعويض شعورها بالهزيمة بالإنتاج العلمي والتقني والصناعي وحصر المنافسة في الاقتصاد.

كما نحصر ملاحظاتنا بقطاع إدارة النفايات، لان الزيارة التي نظمتها مؤسسة “فريديريش ايبرت”، كانت مخصصة لهذا الهدف وفي برنامجها زيارات الى المسؤولين عن إدارة هذا القطاع من حكوميين وبرلمانيين وخبراء ومسؤولين في البلديات والقطاع الخاص. وقد تبين لنا ان في المانيا كل التقنيات المعروفة والتي تم التداول بها على أوسع نطاق في خلال أزمتنا الأخيرة.

الصورة الشاملة

في المانيا 15500 محطة لمعالجة النفايات، تتوزع بين المحارق (معظمها لتوليد الطاقة الكهربائية) والمطامر ومعامل لمعالجة النفايات العضوية (9000 محطة) وتوليد الغاز والكهرباء او استخدامه في قطاع النقل (نصف الشاحنات العاملة في جمع القمامة في برلين تعمل على الغاز المولد من النفايات العضوية) ومراكز لتجميع الأجهزة الكهربائية القديمة وقطع الخردة بالإضافة الى مصانع إعادة التدوير والتصنيع، بالإضافة الى مراكز تجميع الاليات والعمال…الخ تشغل هذه المحطات 3000 شركة خاصة و400 بلدية (من أصل 11000 بلدية). وتجدر الإشارة ان باستطاعة المانيا استقبال أي نوع من النفايات الخطرة (باستثناء النووية) ومعالجتها في محطاتها، وهي تقوم باستقبال أنواع كثيرة من النفايات الأوروبية لقاء بدل محدد. كما لديها قدرات في محارقها ( 59 محرقة) لحرق النفايات بسعة 24 مليون طن سنويا ولديها سعات متبقية (تقدر ب17 مليون طن سنويا) لاستقبال كميات لا باس من النفايات المنزلية من البلدان التي تتشابه نوعية نفاياتها معها (لاسيما الأوروبية)….الخ وكل ذلك يدل ان الطاغي على المقاربة البيئية للاتجاهات الرئيسية في معالجة ملف النفايات، هو الجدوى الاقتصادية من أي خيار، وتشغيل المصانع على أنواعها، التي يعتمد عليها الاقتصاد بشكل رئيسي. وان الصراع هو بين تقنيات ومصالح، أي بين من يراهن على إعادة تصنيع ما يمكن من النفايات ومراهن على القيمة الحرارية (لنفس المواد ربما) من اجل حرقها وتوليد الطاقة منها، على سبيل المثال، بالإضافة الى الصراع بين أنظمة إعادة التدوير المتعددة (11 نظام). وطبعا يأتي كل ذلك، ضمن منظومة مترابطة من القوانين وطرق الإدارة واليات التشاور، وضمن نظم معينة من التعليم وتوجيه البحث العلمي…الخ تدل هذه الأرقام الأولية وغيرها الكثير، ان الأولوية في بلد صناعي ومتقدم كالمانيا، هو للتصنيع والاتكال على التكنولوجيا وتقدمها، وان الرهان على التكنولوجيا لحل مشاكل التكنولوجيا وعلى التصنيع وإعادة التصنيع لحل مشاكل التصنيع… وليس لتجنب انتاج المشاكل. وما لا يعرفه المتأثرون او المنبهرون من التقدم الغربي، ان الالمان، مثل غيرهم من الدول المصنفة متقدمة داخل الاتحاد الأوروبي، يعترفون بان هذا “النموذج” خطير ولن يدوم، وان للموارد قدرات محدودة ولإعادة التصنيع أيضا، وان مناخ العالم يتغير… وعليهم ان يتراجعوا عنه بشكل او بآخر. ولهذا يضع الاتحاد الأوروبي في سلم أولوياته مبدأ التجنب وتحاشي انتاج النفايات قبل مبادئ إعادة التصنيع او كل إجراءات التخلص النهائي كالحرق والطمر.

التخفيف والضريبة على التغليف

بالرغم من الاتجاه التصنيعي الطاغي في المانيا، الا ان ذلك لم يمنعهم من الالتزام بتوجيهات الاتحاد الأوروبي لناحية إعطاء المزيد من الاهتمام بمبادئ التخفيف التي يفترض ان تكون أولوية حقيقية للبلدان غير الصناعية كلبنان. لذلك تم وضع رسوم على تغليف المنتجات. كما تم وضع معايير لاختيار الضريبة والرسوم على تلك المغلفات، بحسب دورة حياتها ومدتها، منذ ان كانت موادا أولية واثناء عمليات التصنيع واثناء الاستهلاك وبعد ان تحولت الى نفايات وكلفة معالجتها. كما استنتجنا ان هناك معايير خفية عند الالمان لناحية وضع الرسوم على اغلفة المواد وهي تعود للحجم وتطوره أكثر من معيار درجة السمية، على سبيل المثال. او على المواد التي يصعب إعادة تدويرها كالبلاستيك الأسود. واثناء النقاشات مع مخايل تويز من الحزب الاشتراكي في البرلمان الألماني (البوندستاغ) اعترف بحجم الصراع بين المصالح حول هذا الموضوع، وان نظام الضرائب والرسوم على السلع يحتاج الى الكثير من التحسين في المانيا. وان الصراع لا ينحصر بين الصناعيين، لا بل بين البلديات والصناعيين وبين أحزاب المعارضة وائتلاف الأحزاب الحاكمة.

التعاون رغم الصراع

في المانيا يمكن مشاهدة نماذج عدة من العمل في إدارة النفايات، فهناك بلديات تستعين بشركات لاسيما في تسليمها النفايات من اجل معالجتها، وبلديات لديها هي شركات لا تبغي الربح. ولكل من هذه التجارب نجاحاتها واخفاقاتها، وهي في كل الأحوال تتعاون مع بعضها. فبعض البلديات تلتزم الكنس والجمع وتسلم المعالجة للقطاع الخاص، وبعضها تسلم كل شيء للقطاع الخاص. وهناك قوانين عامة ومعايير لكل خيار ولكل تقنية، تضعها السلطة الفدرالية (وتكون مستمدة من معايير الاتحاد الأوروبي) وعلى البلديات والقطاع الخاص واي مواطن احترامها.

خلاصات ومقارنات

انطلاقا من هذه التجارب، كيف يمكن تقييم الصراع الشكلي على الخيارات التقنية في لبنان واي من المبادئ يجب اعتمادها في عمليات التقييم؟ لعل اول المبادئ التي يفترض احترامها واعتمادها لتقييم أي خيار او تقنية، هو مدى شمولية هذا المبدأ. على قاعدة أن كل مبدأ لا يعرف مدى صحته الا في حال تطبيقه. فإذا حصل خير عام وشامل من خلال تطبيقه، اعتبر مبدأ عام وصالح.

كما من غير المنطقي على الإطلاق اعتماد المبادئ والمعايير والتقنيات الغربية، او في بلدان تنصف “متقدمة” ومحاولة تقليدها واعتبارها نموذجا يحتذى! كما لا الاقتناع بادعاء وزراء او خبراء أنه يمكن اعتماد تكنولوجيا (في لبنان على سبيل المثال)، طالما هي معتمدة في دول متقدمة! ومن غير المقبول اتباع قاعدة تقول إنه “في حال تعذر وجود معايير أو مواصفات لبنانية، يجب الاعتماد على المعايير والمواصفات الأوروبية. فلكل دولة مساراتها لتبنّي خطط علمية او صناعات او مواصفات محددة. فكما هو معلوم، فإن زيادة حجم النفايات قد حصل مع الثورة الصناعية الغربية، وقد تمّ تطوير صناعة حرق النفايات أكثر من مرة، من ضمن عملية تطوير أي صناعة منتجة للسلع ونفاياتها وضمن نظام معقد من التصنيع واعادة التصنيع والتلويث والمعالجة والمراقبة والمواصفات والتخصص… لا يمكن نقل جزء منه (من هذا النظام الى آخر) دون سواه. بمعنى لا يمكن نقل محرقة متقدّمة من بلد متقدّم الى بلد نامٍ، لا يتمتع بالنظام المتكامل نفسه من ناحية التصنيع وإعادة التصنيع والمعالجة والمراقبة، بالإضافة الى ضرورة ان يتمتع بنظام قيمي وقانوني واقتصادي واجتماعي مماثل.

هذه بعض القواعد الأولية التي تم التأكد منها من زيارة برلين والتي يفترض من خلالها تقييم اجراء استيراد تكنولوجيا ما او محارق، كما هو مطروح حالياً، بغض النظر عن مدى تقدم تقنية الحرق.

صحيح أن فشل كل الخطط في لبنان وعودة النفايات الى الشوارع هي التي دفعت الى اعتماد خيارات متسرعة وجنونية مثل استباحة استيراد المحارق او الترحيل، إلا ان العلة الأساسية كانت ولا تزال هي نفسها في غياب استراتيجية شاملة يمكن على أساسها تقييم الحالة اللبنانية ونوعية النفايات وطرق التخفيف والمعالجة محلياً. قد لا يكون بمقدور كل مواطن ان يدرس او ان يفاضل بين التقنيات المستخدمة في العالم لمعالجة مشكلة النفايات. كما يمكن القول ان المشكلة في العمق ليست تقنية، اذا كنا لا نزال نتحدث عن نفايات منزلية وليس نووية. بالرغم من ذلك على الذين يقومون بهذه المهمة، أي دراسة مقارنة بالتقنيات المتوفرة الانطلاق من الخلفيات التالية: أولا ان الجدل حول التقنيات لا يزال يدور في البلدان المتقدمة أيضا، بين مدافع ومناهض لخيارات الحرق (على انواعه) او لخيارات الطمر او الفرز والتخمير وانتاج الطاقة واعادة التصنيع… الخ

كما لا يزال هناك تفاوت كبير في القدرات والمستويات بين البلدان الاوروبية نفسها. تفاوت في كيفية معالجة النفايات، اذ لم يعد في المانيا والنمسا وهولندا مكبات مفتوحة للنفايات، بينما لا يزال هناك الكثير من المكبات في رومانيا وبلغاريا على سبيل المثال. وبالرغم من سيطرة توجه الحرق على الطمر في المانيا بعد الثمانينات، الا انها لا تزال تبحث في كيفية معالجة أكثر من مليار طن من النفايات لا تزال داخل المكبات. وان خمسة دول اوروبية فقط من أصل 28 دولة في الاتحاد الاوروبي، لديها قاعدة بيانات واحصائيات دقيقة عن النفايات! والمفوضية الاوروبية وضعت معايير وتشريعات لتخفيض حجم نفايات المأكولات، الا ان احدا لم يعرف بعد ما هو حجم التزام الدول الاعضاء في الاتحاد، على سبيل المثال.

الاختلاف في المعايير

لا يأخذ الجدل التكنولوجي في لبنان (ودول العالم الثالث عامة) مجراه عادة، كون كل هذه التكنولوجيات ليست أصيلة (غير منتجة محليا) من جهة، ولوجود خوف كبير ومبرر من البلدان المستهلكة لهذه التكنولوجيا، ان تتحول الى حقل اختبار، او أن يتم الكيل بمكيالين في استخدام التكنولوجيا نفسها بين البلدان المتقدمة وتلك النامية مع تغيير الشروط والمعايير و”الخدمة بعد البيع”… وان لا يتم الالتزام بالمعايير نفسها. والملاحظ انه كلما طرحت تكنولوجيا جديدة لمعالجة مشكلة ما، تطغى دهشة الاكتشاف الجديد على دور العقل المشكك والمدقق ويتم تبني خيارات، سرعان ما نندم عليها بعد فوات الاوان. مع العلم، ان آليات ومعايير الاختيار في البلدان المتلقية يجب ان لا تكون هي نفسها كتلك المعتمدة في البلدان المنتجة لتلك التكنولوجيات. فبعد ان وظفت الشركات مبالغ كبيرة في السبعينات والثمانينات، وتلقت دعما حكوميا لتطوير تكنولوجيا حرق النفايات على سبيل المثال، وقد تبين بعد فترة من الزمن انها تتسبب بمشاكل صحية خطيرة، لم يكن من السهل عليها ان ترمي هذه التكنولوجيا جانبا وان تبحث عن اخرى. لذلك فضلت العمل على “التطوير” والتحسين للتخفيف من الاثار السلبية على البيئة والصحة العامة وان باكلاف عالية يمكن ان تتحملها البلدان المصنفة “غنية”، مع العلم ان بعض إجراءات المعالجة هي في الغالب على حساب البلدان النامية وبيئتها وصحة شعوبها. هذه الحالة ليست هي نفسها في البلدان النامية والمتلقية. لا يعني ذلك ان على البلدان النامية ان تتبنى آخر المكتشفات وآخر التكنولوجيات، بل عليها التفكير مليا قبل تبني اي خيار. فلا الظروف الطبيعية والمناخية هي نفسها ولا الاجتماعية ولا الاقتصادية والعلمية بالطبع… ولا نوعية النفايات هي نفسها ايضا. لذلك من المفيد الاطلاع على الخبرات والتجارب والسجالات العالمية لأخذ العبر، قبل التسرع في تبني خيارات محددة. فتطور التقنيات ليس سببا كافيا لتبنيها. وفي بلد نام كلبنان، يفترض التركيز على خيار التخفيف والتجنب كخيار اول، قبل المراهنة على اية تقنية للمعالجة ومهما كانت.

 ( GreenArea.me )

السابق
هل صحيح أنّ «ولاية الفقيه» تحترم بشار؟
التالي
هكذا سيتصدى «حزب الله» للعقوبات المالية الأميركية!