بلديات لبنان … المجتمع المدني والتغيير «من تحت»

الانتخابات البلدية

يمكن تعريف المحاصصة الطائفية بأنها حكم أغنياء الطوائف لفقرائهم/ها، وهو تقاسم النفوذ والسلطة والثروة و «الفساد» بين أمراء الطوائف على حساب الذين يجمعهم الفقر لتفرّقهم الطائفية.

لبنان، البلد الذي يعد النموذج الأسوأ عربياً للمحاصصة الطائفية، هو واقعياً النموذج الأعلى لكل الأنظمة التي كانت تتعالى عليه سابقاً، تلك الأنظمة التي أثبت نموذجها السوري، ناهيك عن العراقي واليمني والسوداني والليبي… حتى الآن، كم تستبطن انقساماته في أعماقها العفنة، وكم لديها استعداد أصيل ومُكوِّن لتوجيه دولها ومجتمعاتها نحو ذلك «البارادايم» اللبناني المُتعالَى عليه، وفي المحصلة كم كان وجودها وتقدمها في الزمان هو تقادم لا تقدُّم، بحيث جمعت، خلال مرورها الطويل في السلطة، كل الشروط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تجعل من نهايتها بداية للانقسام الطائفي، وهو انقسام كانت توحي بتأخر نموذجه اللبناني لمصلحة تقدمها الزائف عليه.

يناقش مثقفون تحرريون مسألة التغيير «من تحت»، وهو التغيير الذي ابتدأته الثورات العربية قبل خمس سنوات، ليتحطم على أسوار السلطات الفوقية التي أجمعت واجتمعت ضده، متفوقة على نفسها في الانحطاط وجذب الغزاة والتطرف، بحيث لم يجارها في ذلك الانحطاط سوى نوع من المثقفين «الفوقيين» مثلها، لا يرون في مجتمعاتنا إلا استعداداً أبدياً، فوق الزمان وخارجه، للتخلف والتطرف وعدم القابلية للتغير.

في حملة «بيروت مدينتي» التي قرر فيها فنانون ومثقفون ونشطاء مجتمع مدني، التخلي عن الحياد والتعالي والانتظار، للدخول المباشر في معركة التغيير المغلقة أبوابه، يبرز المعنى الأكثر تعبيراً عن التغيير «من تحت»، والذي لا يعني الثورة الشعبية التي تقودها القاعدة البشرية المهمشة والمُفقرة والأكثر تضرراً من السياسات الفوقية لأصحاب السلطة فحسب، بل نزول الطبقات العليا والمتوسطة إلى «التحت»، للمشاركة الفعلية، لا الرمزية فقط، في عملية التغيير ومحاربة الفساد و «الشللية» الطائفية التي باتت تشكل دوائر سلالية مغلقة لا ينفذ اليها التغيير، وجزر مستقلة خارج أي اندماج وطني. وعلى اعتبار أن الانتخابات انتخابات بلدية، لا برلمانية ولا رئاسية، فإن المشاركة هنا قاعدية بالفعل وتأثيرها يكمن في التفاصيل غير المرئية عادة من شياطين التغيير الفوقي والكلّي المستعصيين على التطبيق.

إقرأ أيضًا: بيروت كمان «الي»

ربما كان الجميع في لبنان يريد التغيير والتخلص من الاستعصاء الطائفي والطبقي القائم، ومن بين هؤلاء «الجميع» بعض أصحاب السلطة، الذين يقفون هم أنفسهم عائقاً أمام التغيير. ولكن ما يحصل في الواقع، هو أن دوائر الطائفية وتقاسم النفوذ مغلقة بذاتها، وتشكل نظاماً أكبر من أي شخص واحد بذاته، أو حتى فئة واحدة، لذلك يجد أصحاب النيات الحسنة والرغبات المافوق طائفية، سواء كانوا فقراء أو أغنياء، أصحاب سلطة أو فقراء معدمين، أنهم ما إن يدخلوا ماكينة المشاركة، بالصوت أو بالحكم، حتى تسحقهم عجلة الطائفية في صلبها ويتحولون بإرادة منهم أو من دون إرادة، إلى جزء من ماكينة النظام الطائفي، ولا يلبث معظمهم أن يصبحوا مدافعين عن الماكينة ذاتها التي تحقق مصالحهم من دون أمل في التغيير الكلي.

من هنا تأتي أهمية الطبيعة المدنية المنظمة للمشاركين والداعمين لـ «بيروت مدينتي». فهي ليست محاولة جادة وواقعية لتجاوز الطائفية من خارجها وخارج ماكينتها الصلبة فحسب، بل إنها تحمل في طياتها تجاوزاً للتمييز القائم بأنواعه المتعددة، كالتمييز الجنسي (اعتمدت القائمة مثلاً مبدأ المناصفة بين الرجال والنساء) والطبقي والقانوني والفئوي وغيره من أنواع التمييز الكثيرة القائمة في المجتمع والدولة والنظام السياسي اللبناني.

إقرأ أيضًا: لائحة «بيروت مدينتي»: «أولاد البلد» يواجهون «المحدلة»

ربما كانت قوى المجتمع المدني الأمل الحقيقي المتبقي للتغير في مجتمعاتنا العربية الخائبة بأنظمتها، وربما كان هذا النوع من التغيير هو الأكثر انسجاماً مع روح العصر، وروح الشباب الجديد الكاره للتحزب والأيديولوجيا والأطر المغلقة القديمة، وذلك بعد أن أثبتت الثورات العربية أن صلابة الأنظمة ليست جزءاً من تركيبتها فحسب، بل جزء من تركيبة نظام مافيوي دولي أعلى منها، وأن تلك الأنظمة المتغلغلة، بسبب طول إقامتها، في بنية المجتمعات، لا تترك السُلطة التي عاشت عليها ولها، إلا لبديل إسلامي أو عسكري مثلها، ولا تترك الدول التي «بنتها» إلا بعد تخريبها وتخريب مكوناتها، فالعنف المتأصل في بُناها وبنيتها، يحتاج إلى تفتيت منظم، ربما كان أفضل من يقوم به المجتمع المدني بقواه وفئاته وشبابه الأحياء.

(الحياة)

السابق
أحمد قعبور: بيروت مدينتي التي استشهد فيها رفيق الحريري
التالي
جعجع: نسبة الاقتراع في بيروت وزحلة غير مقبولة