موتُ الكِتاب سَبَقَ الموتَ السياسي لِـ«الكاتب»

الكاتب جهاد الزين

إذا كان كتاب “العمق الاستراتيجي” هو الذي “أوصل” كاتبه المستشار أحمد داوود أوغلو إلى منصب وزير خارجية تركيا في حكومة رجب طيب أردوغان في الأول من أيار 2009، فقد كان عليه أن يستقيل في أواخر عام 2011، العام الذي “مات” فيه هذا الكتاب مع بدء القرار الدولي الإقليمي بعسكرة الثورة السورية وتحويلها من ثورة حقيقية بقيادة جيل من الشباب المديني المتنور يواجه آلة قمع ضارية إلى حرب أهلية سورية وعربية وحرب دولية بالوكالة بين الغرب وروسيا تحوّلتْ إلى عملية تدمير شاملة لسوريا بلداً وحجراً.

لم تكن قضية هؤلاء الشباب الثائرين قضية أحمد داوود أوغلو. ولكنّ “العسكرة” هي الموضوع الذي كابر أحمد داوود أوغلو طويلاً ولأجل البقاء في منصبه والترقّي عام 2014 إلى منصب رئيس حكومة في عدم الاعتراف بأنها، أي “العسكرة”، هي التي أنهتْ كل نظريته “صفر مشاكل” مع المحيط التركي ولاسيما المسلم والعربي وجعلتها نظريةً ميِّتةً بل حتى، نتيجة المفارقة الكبرى بينها وبين ما آلت إليه السياسة التركية في إدارة “مليون مشكلة”، نظريةً مضحِكة.
للموت، أي موت مهابة. لكن في حالة موت كتاب ” العمق الاستراتيجي” وإدارة مؤلفه لسياسة نقيضة كليّاً تحت قيادة رجب طيِّب أردوغان، كانت “الجثة” مضحكة!
كان أحمد داوود أوغلو، قبل عسكرة الثورة السورية وقبل الانحياز “الإخواني” التركي ضد مصر والانحياز الداعشي الفضائحي ضد العراق، كان مشروعَ “كيسنجر تركي ومسلم”. أستاذ علوم سياسية ومفكّر استراتيجي يقدّم في كتابه نظرية متأثرة بالفكر القومي الألماني للسياسة الخارجية لا تقوم على الحروب وإنما على إعادة تركيا لمحيطها عبر المسالمة مع كل مكوناته…في سياسة تعاون- منافسة كانت ذات مثلّثَيْن رئيسيّين من ثلاثة في منطقتنا:

-المثلّث التركي الإيراني المصري، والمثلّث الكبير الآخر ولكنْ الأقل أهمية بنظره: السعودي العراقي السوري، والمثلّث الثالث الصغير والأضعف الخاضع للتجاذبات: لبنان الأردن فلسطين.
كل هذا الترتيب للقوى فَرَطَ بعد العسكرة. حلّت السعودية مكان مصر في المثلّث الكبير وانهار العراق وسوريا. وتحوّلت حدود تركيا الجنوبية إلى جبهات نار غير مسبوقة بهذا الحجم منذ تأسيس الجمهورية.
كان كتاب أحمد داوود أوغلو هو الذي “يَفْرُط” وليس الواقع. فماذا كان سيبقى من استثنائيات هنري كيسنجر لو لم يلعب دوراً بناءً في العلاقة مع الصين وكَسْبِها برضاها ضد الاتحاد السوفياتي؟ وماذا كان سيبقى من كيسنجر، وهذا هو الجزء السلبي من ميراثه، لو لم يمثّل ويجدّد المدرسة الواقعية في السياسة الخارجية الأميركية؟ ولو لم يشارك بالتوازي في صناعة التسوية للحرب الفييتنامية التي امتلكت إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون شجاعة الاعتراف بالهزيمة فيها لكن ضمن رؤية استراتيجية جعلت كل هذه العناصر معا مقومات نجاح استراتيجي أميركي لاحق.
لم تكتمل إذن “كيسنجرية” أحمد داوود أوغلو بل تشوّهتْ باكرا حتى فقدت جدواها.
إذا كانت استقالة أحمد داوود أوغلو من رئاسة الوزراء في الخامس من أيار الجاري لن تنقذ “كتابه” أي لن تنقذ دوره في السياسة الخارجية التي تحوّل فيها إلى مجرّد مُنَفِّذ عكس رؤيته الأصلية، فإن هذه الاستقالة قد تُنقِذ شيئاً من سمعته في السياسة الداخلية، أي سمعة المثقف الذي تحوّل إلى حاكم.

إقرأ أيضًا: الفرصة الأخيرة لتركيا والسعودية في سوريا
ففي السياسة الداخلية، شهد أحمد داوود أوغلو منذ صيف 2013 على التحوّل الديكتاتوري لرجب طيِّب أردوغان منذ ظهرت بدايات ذلك في قمعه للحركات الشبابية في ساحة تقسيم وساحات أخرى من المدن التركية الكبيرة ثم في سلسلة مدهشة من العناد الديكتاتوري المتفاقم للرئيس أردوغان في قمع جهازي القضاء والبوليس وإقامة دولة بوليسية حقيقية وفتح حرب على الأكراد وإسكات الصحفيين والأكاديميين ومصادرة الصحف وتغيير ملكياتها إلخ… حتى تحوّل أردوغان عملياً إلى مشكلة ليس فقط داخلية بل أوروبية وأميركية لا نعرف اليوم سوى أنها دخلت مرحلة خطرة تحتمل كل أنواع التوقعات.

إقرأ أيضًا: لا تحمّلوا تركيا ما لا تستطيع..
استقالة أحمد داوود أوغلو ربما تنقذ سمعته أو ما تبقى منها وتجعله وهو يغادر سفينة رجب طيّب أردوغان حلقة كبيرة من حلقات تداعي المشروع التسلطي لحكم تركيا، المشروع الذي يكاد يدمِّر النموذج التركي الواعد والفريد للعلاقة بين الإسلام والحداثة. النموذج الذي هو حصيلة جهود تسعة عقود لأجيال متعاقبة من تركيا بمن فيها جيل أردوغان الذي انقلب على نفسه أو كشف مشروعا كان مكتوماً. فلا يجب أن ننسى أن تركيا هي اليوم تحت حكم حزب قائد لـ”الإخوان المسلمين”. هكذا باتوا يطلقون عليه هذا الإسم في الغرب ودون أقنعة.
إذا استمر سقوط “النموذج التركي” فالخسارة لا تُعَوّض لأنه لا قرين له في العالم المسلم اليوم على الأقل في الشرق الأوسط وإفريقيا.
قد يبدو الآن الرئيس رجب طيِّب أردوغان في ذروة قوته مدعوماً من الجناح الراديكالي في “حزب العدالة والتنمية” الذي تعوّد على امتيازات السلطة، لكن حكّاماً كثيرين لم ينتبهوا في حالات كهذه أنهم في ذروة عزلتهم.

(النهار)

السابق
عشية الإنتخابات البلدية: #علو_الصوت_يا_بيارتة
التالي
رب ثلاثين نحو اعلان لائحة المستقلين: تأييد المقاومة لا يعني كمّ الافواه