الموت المقدس .. معنى الشهادة المحوّر عند الأصوليات السنية والشيعية

يقتتل المسلمون فيما بينهم باسم الدين. يقومون بقتل المدنيين الغربيين باسم الدين. يقتلون أو ينحرون أنفسهم بالآخرين باسم الدين. ويطلقون على أعمالهم هذه صفة الشهادة أو الاستشهاد.
هذه الظاهرة برزت في السنوات الأخيرة وتمثلت بالشهداء الجدد الذين أسهموا بتغيير صورة العالم عن الإسلام والمسلمين.
إن ظهور الشهداء الجدد ليس ناتجا عن إعادة إنتاج البنيات التقليدية في المجتمعات الإسلامية. ولا عن إرادة بعض الجماعات بالتصدي للحداثة. إن الشهداء الجدد هم حقا، الأشكال الجديدة من التحرر من التقليد، بالشكل المبالغ فيه أحيانا، أو حتى المرضي. فهم يتحررون منه باعتناقهم أشكالا من الشرعية تنتمي شكليا إلى هذا التقليد، لكنها تهمشه في الواقع. فنحن أمام تناقض أصبح كلاسيكيا بالنسبة إلى سوسيولوجيي الدين؛ تدين جديد يدرج انقطاعا مع الأشكال التقليدية للحياة الاجتماعية، وهو في الوقت نفسه، يغيّب هذا الانقطاع باسم منهج «أكثر صحة» لإسلام الأصول. إن جزءا كبيرا من جدة الظاهرة المسماة «إسلامية» يكمن في الاستعمال المزدوج لمستوى التقليد الديني بغية تقويضه.
نجد الشهادة كتضحية بالنفس لهدف مقدس في أغلبية الديانات، ولاسيما الإبراهيمية، كفكرة ترتبط بالنضال ضد اللامساواة والقمع.
فرهاد خسرو خافار في كتابه «شهداء الله الجدد» يعد من أفضل وأعمق من ألقى نظرة على تاريخية هذا التحول وآلياته.
يمثل الشهيد في المجتمعات الإسلامية شخصية تقع بين البطل والقديس. في المذهبين السني والشيعي شخصية القديس موجودة فعلا، لكنها تتحقق عبر البركة وتحقيق الأماني. الشهيد الشيعي ليس قديسا، لكن عند اختياره الموت المقدس، يصبح بإمكانه أن يقارن نفسه بالشخصيات المقدسة، وأن يصبح من رفاقهم ويصنف أيضا كبطل. لكن بطولته بطبيعتها غير دنيوية ما دام قد التزم بقضية نبيلة ودينية تعود إلى منطق الاستحقاقات في العالم الآخر. والشهيد في المذهب الشيعي هو من يتمسك بهذه “القداسة الخاسرة”. أما الشهيد السني فهو يموت في سبيل الله عندما يشارك في الجهاد.
لكن عند النظر في تعبير “الشهادة” (من شهيد) كما أصبح متداولا الآن نجده شهد تطورا يدعو إلى الدهشة في الدين الإسلامي. فالمفهوم في القرآن يشير إلى الإدلاء بالشهادة لا إلى الموت المقدس. عند ذكر الموت في سبيل الله نجد عبارات مثل: “لمن يقتل في سبيل الله” (سورة “البقرة”، الآية 154)، “ولئن قتلتم في سبيل الله” (سورة “آل عمران”، الآية 157)، أو “الذين قتلوا في سبيل الله” (سورة “آل عمران”، الآية 169)، أو “فليقاتل في سبيل الله” (سورة “النساء”، الآية 74) أو “الذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا” (سورة “الحج”، الآية 58). فعبارة “في سبيل الله” هي الأساسية للإشارة إلى ما سيصبح فيما بعد الشهادة.
يبدو أن مفهوم الشهادة بدأ يأخذ بشكل واضح معنى الشهادة بعد الفتح الإسلامي لفلسطين في القرن السابع، في شكل يوازي المفهوم اليوناني marturos مع ما يحمله من ازدواج في المعنى، الشاهد والشهيد. تهدف كلمة شهيد إلى الإشارة إلى الشهداء المسلمين الذين يموتون في ساحة المعركة في حربهم ضد الكفار، واعدين أنفسهم بأجر كبير في الآخرة. فمفهوم الشهادة يجعل من الشهيد محرّك الموت المقدس والشاهد على صحة إيمانه.
ففي الديانة المسيحية، كان قبول الموت المقدس يشهد على جدية الإيمان أمام الخالق، وعلى صحة القضية أمام الإنسان. النوع نفسه من الشهادة المزدوجة موجود في الإسلام. بيد أن سمة جوهرية تميز الشهيد المسلم عن المسيحي؛ ففي هذه الحالة الأخيرة، ينبع الموت من رفض المسيحي الخضوع إلى إرادة من يمسك بزمام الحكم. فلا يبحث المسيحي عن إنزال الموت بالوثني الروماني الذي يريد أن ينكر عليه دينه. إنه لا يعترف له فقط بالحق بإجباره على التصرف بما لا يتوافق مع أحكام دينه.
أما الشهادة لدى المسلم فهي الموت الناتج عن النضال ضد أعداء دين الله. إنه النضال في سبيل الله الذي يؤدي إلى هلاك المؤمن شهيدا: “ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما” (سورة “النساء”، الآية 74). “إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم” (سورة “التوبة”، الآية 111).
يقتل أو يقتل في سبيل الله: هنا يكمن بيت القصيد في سورة التوبة، والذي يقوم عليه مبدئيا مسوغ الشهادة في الإسلام. أن نَقتل أو نُقتل، فالجنة هي مثوانا. هذا النص المؤسس لا يذكر، كما سبق وقلنا، عبارة الشهيد أو الشهادة التي ستصبح لاحقا مفهوما أساسيا للموت المقدس.
بيد أن فكرة الموت المقدس في “سبيل الله” صيغت بشكل واضح، وستعتمد في مختلف الأعراف الإسلامية.
في المقابل، يأتي العنف الجسدي في الديانة المسيحية من الذين يمسكون بزمام الحكم، ولا يبدي المسيحي أي تصرف يوازي هذا العنف.
في الإسلام، يتسم النضال ضد أعداء الله بعنف شرعي، حيث باستطاعتنا أن نَقتل كما أن نُقتل. لا يُمنح العدو أي امتياز لكي يوجه الضربات إليكم بلا عقاب. إذا قَتل من يقاتل في سبيل الله، سيؤتيه أجرا، وإذا لقي حتفه سيكون مثواه الجنة. على هذا الصعيد، تحمل الشهادة معنى مختلفا تماما عن معناها في المسيحية. أن يمارس المسلم العنف، فهذا أمر محلل، ومصيره سيقرر عند انتهاء القتال في سبيل الله. لم يعد العنف في اتجاه واحد، فهو لا يأتي من العدو حصرا، ويتحمله المؤمن الذي يلجأ إليه بشرعية تامة حسب أحكام إيمانه.
تختصر الشهادة إذن بما يأتي:
ـ إذا ناضلنا في سبيل الله، كان لنا فضل عظيم.
ـ إذا قُتلنا في النضال خلال القتال، نكون شهداء وسيكون مثوانا الجنة.
ـ الشهادة هي النتيجة غير المتعمدة للموت في ساحة المعركة (أو في أي وضع آخر يشبهها) على يد عدو نواجهه بغية تحييده أو القضاء عليه من دون السعي إلى الموت على يديه.
ـ تمثل الشهادة، المثالية – النموذجية، التزاما فعليا من قبل المسلم بالموت أو بالقتل، بممارسة عنف شرعي ضد المشركين أو الكفار الذين يعرّضون دين الله للخطر.
ـ نتيجة لذلك، وعلى عكس المسيحية، لا نجد في الشهادة المسلمة رفضا للعنف الجسدي ضد العدو، على العكس: ثمة إرادة علنية بتحييده أو حتى بقتله في قتال، يمكن أن يسفر في النهاية عن موت “الكافر” كما عن موت المؤمن.
عند المسيحي توجد شهادة دفاعية: أي أن الأمر لا يتعلق بالنضال بعنف ضد صاحب البدعة أو الجائر، بل بإظهار عدالة قضية ما وصحتها ولو استدعى الأمر التضحية عبر مقارنتها بسلوك تحد لا يقوم على العنف. هذه حالة الشهيد المسيحي. فهو يرفض العمل العنيف لكنه يرفض الانصياع إلى أوامر الحاكم أو الإمبراطور الروماني.
أما عند المسلمين فالشهادة الهجومية: تقتضي النضال الفعلي والعنيف عند الحاجة، ضد من يعتبرهم الأتباع.. طغاة أو جائرين. فالتضحية بالنفس تقتضي القضاء على العدو في صراع، لا بد لأحدهما أن يسيطر على الآخر.
إن ما يحرك النوعين هو فكرة التضحية بالنفس.. لكن الاختلاف بينهما جوهري..
عند الشيعة نجد بنية عاطفية ترتكز على الشهادة، وتعطي معنى جديدا لدين الله. يحتل الحسين مكانة مميزة. تضحيته شكلت إيقاظا للمسلمين وحثتهم على التصدي لتشويه دين الإسلام.
كانت شهادة ثالث الأئمة مناسبة للكشف عن المغتصبين بغية إصلاح دين الرسول الصحيح. تبدو العلاقة هنا بين الشهادة والجهاد غامضة، إذ إن الهدف من التضحية بالذات ليس النصر، بل العكس.. فالنتيجة هي هزيمة مؤقتة، مصرع الحسين في معركة غير متكافئة، حيث «سيد الشهداء» يقتل دون أن يتذوق النصر، بل على العكس، سيتحقق النصر ـ حسب هذه الرواية ـ بعد وفاته عبر كشف لا شرعية السلطة الظالمة.
لكن لم يجمع كل الأطراف على هذه الرواية. بالنسبة إلى مناصري الألم، تعني هزيمة الحسين أن هذا العالم هو وادٍ تذرف فيه الدموع، ويمكنها أن تكون بلسما للآلام التي تخصصها الحياة الدنيا للمؤمن. في حين كانت السلطات العثمانية السنية تضطهد الشيعة، وتعتبرهم منحرفين عن الإسلام، بل حتى مشركين.
في هذه الظروف كانت النظرة إلى الألم تعطي معنى لبقاء القمع، بما أنها تواسي المؤمن. شكل هذا النهج السائد (في ما عدا استثناءات) الدين الشعبي في العالم الشيعي. فشهادة الحسين كانت تغذي وبشكل نادر الثورات، أو الانتفاضات ضد السلطات القمعية، وضد ما يعتبر سيطرة سنية، أو ضد قمع غير محتمل، أو ضد السيطرة الاستعمارية.

إقرأ أيضًا: حزب الله و«الجهاديون السنّة» وجهاً لوجه!
لكن بدءا من القرن التاسع عشر، ظهر شكل قتالي إرادي حول شهادة الحسين حوّل شهادته إلى نضال ضد الظلم الذي يتطابق مع إنكار دين الله.
وظهر الشكل الجديد الآخر مع الثورة الإيرانية، حيث استعمل التشيع كإيديولوجية تعبوية في خدمة الثورة الإيرانية، ولم تكن إعادة إنتاج بسيطة للتشيع التقليدي. ثمة تحولات جمة حصلت داخله، وجعلت منه سلاحا يستخدمه العديد من فئات المجتمع الشعبية. بدأت دنيوية التشيع في نهاية القرن التاسع عشر، وأصبح راديكاليا بدءا من السبعينيات، ولاسيما بفضل “علي شريعتي” الذي أصبح القائد الإيديولوجي للحركة الثورية. صارت تعابيره كالبناء الثوري الذاتي والتشيع الأحمر، وتشيع علي الأكثر تداولا في أثناء الثورة الإيرانية.
حولت دنيوية التشيع، دور المؤمن تحولا جذريا. وبعدما كان التشيع في الماضي يميل إلى البحث عن المواساة من قلة عدالة العالم عبر الاعتقاد بمذهب الألم، أو الألمية، وصب كل آماله على المهدي المنتظر (الإمام الثاني عشر الغائب). الآن حوّلت الأصوليات السنية والشيعية مفهوم الشهادة إلى مستوى جديد تماما. صار اعتداء على الآمنين وعلى من يقاومون الظلم والطغاة.

إقرأ أيضًا:الجهاد المقدس على «فيسبوك»
هذا دون أن ننسى التذكير بأن أول اعتداء انتحاري كان ذلك المؤيد للقضية الفلسطينية وهو العملية الانتحارية التي قام بها ثلاثة أعضاء من الجيش الأحمر الياباني (على خلفية كاميكازية)، اوكوداريا وأوكومتو وياسودان، حين نزلوا في مطار اللد قرب تل أبيب يوم الثلاثاء (30 مايو أيار 1972) ليفتحوا النار عشوائيا على مئة وعشرين من البورتوركيين جاءوا للحج، والحصيلة مقتل 26 وجرح أكثر من مئة. كان لهذا العنف الأعمى تأثير هائل، لا سيما أن الإرهابيين سعوا إلى الانتحار فورا (تمكن اثنان من ذلك ومكث أوكومتو مدة طويلة في السجن واحتفت به ليبيا كبطل).

(دار الهلال)

السابق
في أبراج اليوم: كن يقظًا.. وفتّش عن حلول جديدة
التالي
أمل عرفة تتسبب ببكاء الفنان جورج خباز..