صحافة الممانعة المزدهرة في المستنقع اللبناني الآسن

قد يكون واهياً وكسولاً الربط الميكانيكي بين الأزمة المالية والسياسية الخانقة التي تعيشها الصحافة الورقية في لبنان، وبين ازدهار الصحافة الإلكترونية ووسائط التواصل الاجتماعي وشيوعها.

لكنَّ مصادر تمويل الصحف الورقية اللبنانية أو البيروتية، وكذلك الصفقات المالية والسياسية التي تعوّدت هذه الصحف من زمان على عقدها مع مموليها، لم تتراجع وتشحّ وتنضب بسبب ظهور الصحافة الإلكترونية وازدهارها. والدليل أن صحيفتين ورقيتين، يوميتين وجديدتين ومؤثرتين، صدرتا في بيروت بتمويل سياسي شامل ومتكامل الأركان وظاهر للعيان، من دون مواربة، بالتزامن مع صدور شيوع صحافة الانترنت، ومع بداية أزمة الصحيفتين البيروتيتين الأساسيتين، والأوسع انتشاراً وتأثيراً: «النهار» و «السفير». واليوم يشيع في بيروت كلام عن عزم ما يسمى «التيار المعتدل» في إيران على اصدار صحيفة كبرى جديدة في العاصمة اللبنانية ومنها، لتسويق توجهاته السياسية الجديدة بعد الاتفاق النووي.

ما الذي يمكن استنتاجه، إذاً بناءً على هذه المعطيات؟ يبدو أن الأزمة المالية والسياسة طاولت وأصابت صحفاً لبنانية محددة منذ نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة على الأرجح. ففي خضم الانقسام والاستقطاب السياسيين الأهليين والطائفيين العموديين في لبنان منذ العام 2005، نشطت جهاتٌ وأطرافٌ سياسية إقليمية على جبهة تمويل طرفي هذا الانقسام الاستقطابي، وخصوصاً بعد حرب تموز يوليو 2006. وقد طاول التمويل حملات الانتخابات النيابية المحمومة، إلى جانب الإعلام التلفزيوني والصحافي. لكن مموّلي الإعلام المحسوب على قوى 14 آذار، سرعان ما أمسكوا أخيراً عن تمويله، فيما ضاعف مموّلو قوى 8 آذار نشاطهم التمويلي للإعلام اللصيق بهم التصاقاً كاملاً.
في هذا الإطار أصاب الإمساك صحيفة «النهار» إصابة بالغة عرّضها للتقشف والانكفاء والضمور، بالتزامن مع شيخوخة غسان تويني وانكفائه عن متابعة شؤون الجريدة وشجونها.

أما صحيفة «السفير» التي تعيَّشت منذ صدورها في العام 1974 تعيّشاً كاملاً على ضروب وصفقات متتالية من التمويل السياسي، فتعكسُ أزمتُها وضيقُها الراهنان – وكذلك تهديدُها قبل أسبوعين بالعزوف عن الصدور – انكشافَ سلوكِ مؤسّسها وصاحبها الدائم إزاء مموليه.

وإذا كانت «السفير» قد دشّنت حمْلها لواء العروبة في لبنان بتمويلٍ سياسيٍّ ليبيٍّ قذافيّ منذ صدورها، فإنها سرعان ما ساحت في مسيرتها وتنقّلت في متاهات عروباتٍ مالية وسياسية كثيرة، متدافعة ومتناحرة. فمن العروبة الناصرية والقذافية والفلسطينية انتقلت إلى عروبة سورية أسدية. وفي خضم انتقالها هذا غداة دخول الجيش السوري إلى لبنان العام 1976، يُروى أن صاحب الجريدة جمع العاملين فيها، وأبلغهم بأنه يعاني أزمة مالية وسياسية قد تدفعه إلى إقفال الجريدة. كان العاملون في «السفير» آنذاك من جيل عروبي ويساري يعيش في حمّى غنائيةِ شبابه السكرى بأحلام الثورة والتغيير في خضم حروب لبنان الأهلية. لذا هبَّ بعض الصحافيين والصحافيات قائلين أنهم على استعداد لبيع أملاك عقارية ورثوها عن أهلهم في قراهم، كي ينقذوا الجريدة من أزمتها المالية، غير مدركين أن الأزمة المزعومة لم تكن سوى فصلٍ من فصول استدراج عروض جديدة لتمويلٍ سياسي جديد للجريدة.

أما بعد العام 1982 فحطّت «السفير» رحالها «في خدمة سيّدين»: إيراني خميني وسوري أسدي، قبل أن تصاب أخيراً بحال من الفصام المالي والسياسي. وهو فصام لم تعد قادرة على إخفائه وحجبه إلا ببراقع رثة وصفيقة، لرثاء نفسها والصحافة والعروبة قبل إعلانها الابتزازي الأخير عن عزمها على تجرّع السمّ الزّعاف: احتجابها عن الصدور. ويتجسّد الفصام «السفيري» الأخير في انتهاج الجريدة سياسة أسدية – خمينية شيعية و»حزب اللهية»، حربية ممانعة. وعبثاً حاولت وتحاول تقنيع (من قناع) هذه السياسة بعروبةٍ إنشائية خاوية لم تعد قادرة على إخفاء رثاثتها.

وفي خضم محاولاتها هذه ربما شعرت الجهة الممولة للسفير أنها لم تعد بحاجة إلى خدماتها البالية والكاسدة، بعدما صار لدى تلك الجهة أبواق جديدة فتيّة واشد التصاقاً بها في مجالي الصحافة الورقية والإعلام التلفزيوني. ويُروى في بيروت أن وفداً من الجهة الممولة لـ»السفير» زار صاحبها قبل أيام وابلغه بأنه لن يستغني عن الجريدة، وبأنه أوعز إلى رجال أعمال لبنانيين من قوى 8 آذار لتمويل عجز الجريدة المالي. وذلك لتظل قناعاً إيرانياً صفيقاً للعروبة الرثة في لبنان.

في المقابل تستمر «النهار» في احتضارها المالي وجوائها الصحافي منذ آلت إدارتها، بعد رحيل عميدها غسان تويني، إلى ورثته الذين اغتيل منهم نجله النشيط، جبران تويني، في العام 2006، وسط الاغتيالات المتلاحقة التي حصدت أقطاباً فاعلين في «ثورة الأرز» وقوى 14 آذار. والتوريث لنا عادة (على ما يقول شعار من شعارات حزب الله وجمهوره: «الموت لنا عادة»). وذلك نسجاً على منوالٍ عروبي أصيل وعميق الجذور، لا فكاك منه، حتى لصانع أمجاد النهار في الستينات اللبنانية. فهو وقف في العام 2000 وزفَّ لمحرري الجريدة خبرَ توريثها لنجله. لكنه خفّف من وطأة كلامه – على نفسه أولاً وأخيراً، لأنه كان يتكلم أمام دمىً أصلاً – بالمزاح والسخرية من نفسه، لتوارد توريث «النهار» وتزامنه مع وراثة بشار الأسد والده على عرش سوريا الدكتاتوري.

الأرجح أن «النهار» لن تبرأ من أزمتها المالية ومن احتضارها الصحافي. فهي صحيفة «مستقلة» نسبياً، وارتبط اسمها بلبنان الليبرالي وبتوسع الفئات الاجتماعية الوسطى المدينية اللبنانية في الربع الثالث من القرن العشرين. ويبدو اليوم أن «استقلالها» النسبي صار عائقاً لها وعبئاً عليها، لأنه لم يعد ذا قيمة في خضم الإنقسام والاستقطاب اللبنانيين العموديين المحمومين. لذا لن يُقدِم أحد على نجدتها مالياً، بعدما أمسك داعمو قوى 14 آذار الإقليميون حتى عن تقديم العون المالي لأطراف لصيقة بهم في لبنان.

إقرأ أيضًا: السفير.. ليست حكاية حنين

أما ما أصاب المهنة والمادة الصحافيتين ومضمونهما من التراجع والضمور والخواء وعدم التجدد، فإلى صلته الوثيقة بصلب مسألة التمويل السياسي للصحف اللبنانية، فإنه يطاول أيضاً تكوّن أجيال محددة من الصحافيين، وضحالة ثقافتهم، وصلتهم الاستزلاميّة بالصحافة والسياسة والهائية الخاوية بالكتابة. هذا إضافة إلى ارتباط حال المهنة الصحافية وأفولها، بأفول دور لبنان وبيروت كـ»ساحة» عربية سياسية وثقافية ناشطة ومزدهرة منذ خمسينات القرن العشرين، حتى في خضم الحروب الأهلية «الملبننة» ما قبل العام 1982 الذي شهد منعطفاً حربياً حاسماً أدى إلى سقوط لبنان في أحضان الحلف الإيراني السوري الذي نسجه حافظ الأسد. أما التسعينات اللبنانية الحريريّة المجيدة فسرعان ما انتهت باغتيال الحريري وبحرب تموز 2006 المدمّرة، والتي أدت إلى استئساد حزب الله وحلفه اللبناني والإقليمي، على لبنان، دولةً ومجتمعاً، وصولاً إلى تفكيكهما واستتباعهما. هذا وبلغ التغوّل الحربي بحزب الحروب الدائمة أن ولغ بدماء السوريين الثائرين على أحد سيّديه.

إقرأ أيضًا: الصحافة اللبنانية إلى الإفلاس دُر… والسفير تستسلم ورقياً!

أما لبنان اليوم وصحافته فيعيشان في حلقة تحلّل على منوال حلقات الزمن الخلدوني (نسبة إلى نظرية ابن خلدون في التأريخ والعمران). فإذا كانت الستينيات والسبعينيات اللبنانية حلقة تألّق وازدهار على صعيد صناعة الصحافة والثقافة، فإن لبنان اليوم وصحافته يعيشان في مستنقع آسن لا تزدهر فيه إلا صحافة الممانعة.

(القدس)

السابق
الصحافي علي الأمين: عملية الخطف سوف تعالج دبلوماسيًا وقد نشهد تسوية
التالي
النبطية تحت سطوة النفايات.. والفساد