عملٌ رعّاعي وغير بريء ومرتبط

مكاتب صحيفة الشرق الاوسط

مع أنني لا أشارك منتقدي كاريكاتور الزميلة ” الشرق الأوسط” اعتباره مهينا للكرامة الوطنية اللبنانية رغم التوقيت السياسي الصعب للعلاقات الخليجية اللبنانية، إلا أن إثارة النقاش حول هذا الموضوع، كأي موضوع عادي آخر، يمكن أن يكون مفهوما مع أننا كلبنانيين عموما وككتاب سياسيين خصوصا نستخدم المعنى نفسه الذي استخدمه الكاريكاتور وهو معنى شائع جدا عن ضعف الدولة اللبنانية وتفتتها. فنحن نعيش في بلد غني ثقافيا واجتماعيا وبشريا ومتميز ولكننا، كما أكتب دائما، في دولة تافهة تتحكّم بها مافيات عميلة من كل الاتجاهات.

اقرأ أيضاً: هل الدولة في لبنان حقيقة أم كذبة؟

هذا شيىء والعمل الرعّاعي الذي قامت به مجموعة من الخطأ أن يُقال فيها أنها مشبوهة، بل أنا “متأكِّدٌ” ولو بين مزدوجَين أنها “يجب” أن تكون مرتبطة أمنيا، هو عمل مؤذٍ لدور بيروت وعبرها لبنان كبيئة لحرية الصحافة وازدهارها. لا أتحدث هنا عن الصحافة الحرة، فمنذ زمن طويل ليس في لبنان (وطبعا العالم العربي) صحافة حرة بالمعنى الغربي للكلمة، ولكن في لبنان حرية صحافة مهمة جدا للدور الذي نطمح أن يطوِّره لبنان وهو قادر على ذلك لأنه ليس لهذه الحرية الصحافية مثيل في كل العالم العربي ومعظم الشرق الأوسط بما فيه إيران ومجددا تركيا الأردوغانية.
الذين أرسلوا هذه المجموعة للاعتداء على الزميلة “الشرق الأوسط” في بيروت والذين مكّنوها من الوصول إلى مكاتبها المفترَض أنها في بناية معروفة ومحروسة بسبب وجود مؤسسات متعددة مهمة فيها، وجّهوا ضربة فضائحية نقلت مسألة الحديث عن الوضع الصحافي من مسألة دفاع عن زملاء مصروفين وأبرياء في أكثر من مؤسسة يدفعون ثمن صراع سياسي وأمني إقليمي ومحلي، إلى مسألة مختلفة تساعد الطرف “الصارف” على تعزيز وجهة نظره أو حتى ادعاءه بالأسباب الأمنية للصرف.

الشرق الأوسط
عمل رعّاعي وأقول للذين قاموا به خصوصا من الذين ارتبطت أسماؤهم سابقا بالحراك المدني أنهم أذوا هذا الحراك وزملاءهم فيه بمفعول رجعي لأنهم أثاروا الشبهات حول أشخاصهم وبالتالي سمحوا مجددا بتعويم نقد الحراك. وهذا ظلم فادح مضاعف. لأن الحراك المدني هو أكبر حركة لاعنفية شبابية يشهدها تاريخ لبنان الحديث وبالتالي هذا يعني أنه كان هناك مندسون فعلا فيه وأن قيادته بل قياداته باتت معنية بتوضيح عدم علاقة أي تجمّع رئيسي ومعروف فيه بأسماء المعتدين على مكاتب ” الشرق الأوسط”، ناهيك طبعا عن بديهة الدعوة لتحرك الأجهزة القضائية لاعتقالهم والتحقيق معهم.
الجسم الصحافي اللبناني كله، بمكتوبه ومسموعه ومرئيِّه، حتى لو كان ناقدا للكاريكاتور المشار إليه، معنيٌّ بمواقف واضحة جدا ضد هذا العمل الرعّاعي الذي “يجب”، في النظرة غير الساذجة إليه، أن يكون مدروسا أي غير عفوي.
عندما تنتقد صحيفة “النهار” كاريكاتور “الشرق الأوسط”، ولو كنتُ لست من دعاة ربطه بالكرامة الوطنية!، فصحفٌ أخرى من علاقات سياسية مختلفة لا مبرر لسكوتها عن الاعتداء الذي طبعا لم تسكت عنه “النهار” ويكفيها أنها أخبرَتْنا عن أسماء المعتدين.
مسألة دعوة دول الخليج جميعا إلى عقلنة ردود فعلها حيال لبنان شيىء ومسألة انتهاك مكاتب مؤسسات ممولة منها ولا يزال يعتاش المئات من الإعلاميين في الداخل والخارج من رواتبها شيىء آخر.
الذين سمحوا لهذا العمل الرعّاعي أن يحصل يستخفّون وبسهولة بالمشهد الإعلامي اللبناني ويوجهون ضربة جديدة للصحافة اللبنانية. ليس لأنني أدعو إلى “تقديس” المال السياسي، فقد نشأ كسل تاريخي في الصحافة اللبنانية منذ الخمسينات من القرن الماضي سببه الاعتماد شبه الوحيد على المال السياسي من كل الأنواع. الكسل البنيوي الذي يكاد يقطع علاقة الصحافة بالسوق الطبيعي. ولربما كانت أزمات التمويل التي تطال الجميع هذه الأيام، على صعوباتها الجراحية، مناسبةً ولو قسرية لكي يولد أو يتعزّز جيل جديد من أصحاب الصحف والصحافيين يكون أقل اعتمادا على المال السياسي وبالتالي أكثر إبداعا في البحث عن وسائل الترويج والإعلان المرتبطة بالسوق الطبيعية. لكن هذا موضوع مختلف سنأتي إليه لاحقا خارج الشارع الرعاعي.
المهم الآن إدانة العمل الرعاعي الذي يمكن أن يرتد على مناصري مشجِّعيه في مناسبات أخرى. وقد ثبت ذلك في تاريخ الدولة التافهة على الجهتين.

(النهار)

السابق
بالصورة.. لماذا تراجع عباس زهري عن هذه التغريدات؟
التالي
اين اصبحت «المبادرة الفلسطينية» التي اعلنت قبل عامين؟!