رفسنجاني «خائن» لأنه يريد «الحوار»!

سؤال صعب لا جواب له إلاّ في تفاصيل إيران العميقة وهو: لماذا يريد المرشد آية الله علي خامنئي استمرار العداء مع الولايات المتحدة الأميركية؟ ولماذا «كسر» كل المحرّمات واتهم ضمناً هاشمي رفسنجاني بـ«الخيانة»؟

المرشد خامنئي لم يُعرف عنه أنّه قائد ثوري، يملك فكراً ثورياً يريد به تغيير التاريخ. خامنئي منذ مطلع الثورة التي قادها الإمام الخميني، انخرط في مسار الثورة من باب السلطة. عرف كيف يصعد «السلم» تحت «عباءة» هاشمي رفسنجاني الذي أيضاً لم يملك فكراً ثورياً، وإنّما التزاماً بثورة الإمام الخميني ضدّ الشاه. سواء رفسنجاني أو خامنئي، التزما فكراً محافظاً سواء كان معتدلاً أو متشدّداً. براعة خامنئي أنّه طوال 15 سنة من السلطة نجح في الإمساك «بعصا» السلطة من وسطها. في العقد الأخير انحاز كلياً إلى الخط المحافظ والمتشدّد، فشَهَرَ «الطلاق» في وجه رفسنجاني وابتعد عنه رغبة منه في الانفراد بالسلطة خارج «عباءته».

هذا «الطلاق» أنتج مفاعيل عميقة في إيران الدولة تحت «خيمة» الثورة التي كان أكبر ترجماتها صعود «التيّار القومي» بتسميات مختلفة أنتجت شعاراً ومساراً في توسيع «حدود« الدفاع عن إيران في عمق محيطها الجغرافي العربي الذي كان يجب أن يشكّل حسب المعطيات الأولى للثورة، العمق الاستراتيجي لتحرير فلسطين، فإذا به حالياً بعد أكثر من خمس سنوات، أرضاً واسعة وئد فيها الخطاب الثوري لتحرير فلسطين، وإسلاميتها البعيدة عن المذهبية.

وعي خامنئي الكامل، بأنّ خلافته أصبحت مفتوحة، يدفعه إلى الاندفاع في عملية معقّدة، لأن يكون «خليفته» خارجاً من «مطبخه» الملتزم بشخصه وتاريخه وبخطّه السياسي. لكن نتائج انتخابات مجلسي النواب والخبراء، أكدت أنّه غير قادر على الحسم، وأنّ «توأمه» وخصمه حالياً، أي رفسنجاني، أصبح «شريكاً» له في القرار، فكيف بالمستقبل الذي يريد مع الرئيس حسن روحاني التغيير الذي على طلاق مع الإرث الخامنئي. من الثابت أنّ رفسنجاني خاض انتخابات مجلس الخبراء بلائحة من 71 مرشحاً على مساحة إيران نجح منهم 41 مرشحاً، في حين أنّ المحافظين المتشدّدين خاضوا الانتخابات بلائحة تضم 84 مرشحاً فاز منهم 30 مرشحاً، مما يعني أنّ رفسنجاني حصد الأكثرية خصوصاً مع المستقلين، لأنّ مجلس الخبراء يضم 88 عضواً.

اقرأ أيضًا: إيران بين «عاصفة الحزم» و «التحالف الإسلامي» ضد الإرهاب

هذا التحوُّل العميق والخطير بالنسبة للمرشد دفعه إلى التصعيد في تشدّده انطلاقاً من استمرار العداء للولايات المتحدة الأميركية. سلاح الصواريخ شكَّل «المنصّة» لهذا التصعيد، لذلك قال خامنئي: «إنّ استعراض الصواريخ يبعث السرور لدى الشعوب الناقمة بشدّة على أميركا والكيان الصهيوني». التجارب الصاروخية أسعدت خامنئي وفريقه لكنها أثارت رفسنجاني فكتب: «الغد هو عالم الحوار وليس الصواريخ». التقط خامنئي هذا الالتزام بانفتاح رفسنجاني على العالم ليتّهمه بالخيانة علناً حتى ولو استخدم في اتهامه التحفُّظ والمواربة فقال: «إنّ هذا الكلام إن أُطلق من منطلق الوعي يُعدّ خيانة».

لا شك أنّ رفسنجاني ليس «ابن البارحة« في الثورة والدولة، وهو لا يقول كلمة إلاّ عن وعي كامل. بهذا يكون اتهام خامنئي له «بالخيانة» عن وعي كامل أوسع وأعمق. لكن لهذا الاتهام تردّداته الخطيرة وغير المسبوقة في تاريخ الثورة والدولة على هذا المستوى. وهو خطير إلى درجة أنّ الأميرال علي شامخاني رئيس مجلس الأمن القومي زار رفسنجاني على وجه السرعة للتخفيف من وقع الاتهام ومن حدّة «الردّ الرفسنجاني».

حتى الآن كان الصراع بين التيار المحافظ المتشدّد بقيادة المرشد خامنئي والتيار المعتدل والوسطي بقيادة رفسنجاني وروحاني محصوراً ومضبوطاً داخل الدواوين ذات الأبواب المحكمة الإغلاق. الآن أصبح علنياً ومكشوفاً، حتى ولو نجحت الوساطات في تهدئة التوتر والتصعيد فإن «الجرّة» كُسرت بين خامنئي ورفسنجاني، وليالي «السكاكين الطويلة»، أصبحت ليلاً ونهاراً بين مسارَي الإبقاء على إيران «جزيرة» على عداء مع محيطها والخارج. والتغيير الذي ينتج إيران جديدة على وفاق مع محيطها الذي يريدها «سنداً» له ويكون هو عمقاً استراتيجياً لها.

بعيداً عن الجمهورية الإسلامية في إيران توجد كوبا وفيديل كاسترو الزعيم الثوري بلا شك، الذي ترك بصماته وهو حيّ، على مسارات عالمية ستبقى محفورة في التاريخ، حتى ولو لم تعد كوبا جزيرة محاصرة وسط المحيط. مشكلة كاسترو أنّه رغم ابتعاده عن السلطة وليس عن التأثير في السلطة الكوبية، لا يريد أن يخرج من الماضي، حتى ولو أراد كل الكوبيين ذلك. بالنسبة لقائد أمضى نصف قرن وهو «يزرع» الثورة، ليست عملية عادية ولا سهلة، أن يقفز إلى مسار الدولة الذي يتطلّب منه «حلاقة ذقنه» كما سبق ووعد. رفيق دربه الثوري الكبير تشي غيفارا استوعب حركة التاريخ بسرعة، فغادر كوبا ليكمل الثورة، فدفع حياته ثمناً لإيمانه بأن الثورة مستمرة. فيديل كاسترو اختار منذ البداية السلطة على الكفاح الثوري فبقي في هافانا، وأرسل كل الشباب الثوريين إلى غابات وصحارى العالم، لدعم الثورات فيها ليكتشف متأخراً أن كل الثوريين المخلصين قُتلوا من أجل بقاء واستمرار القيادة المترهّلة في موسكو، وأنه رغم كل هذه التضحيات انهارَ الاتحاد السوفياتي، لتبقى كوبا جزيرة محاصرة يجهل الشعب الكوبي فيها الانترنت، ويفتقد أدنى مستلزمات الحياة العصرية.

مقال فيديل كاسترو بعد فتح الثغرة في جدار السدّ العازل لكوبا، يؤكد أنه ما زال وحيداً أسير الماضي ويريد إبقاء كوبا أسيرة مثله للماضي. كتب فيديل كاسترو: «نحن قادرون على إنتاج المواد الغذائية والثروات المادية التي نحتاج إليها.. كوبا ليست بحاجة إلى هدايا من الولايات المتحدة الأميركية». ما زال فيديل يعتقد أن الشعوب تحيا بالخبز وحده، من أجل التحليق في فضاء «المجد والحق والثراء الروحي». الروس أكبر مثال على فشل كل هذا الشعار، فقد اختاروا التخلي عن «الامبراطورية» من أجل الدخول في العصر بكل لوازمه واحتياجاته. في جميع الأحوال فإن شقيقه الرئيس راوول كاسترو مع الرئيس باراك أوباما، فتحا الباب «مواربة» لوضع نقطة النهاية على «إرث» فيديل كاسترو.

إيران وكوبا تجربتان مختلفتان، لكن التغيير فيهما قادم عاجلاً أو آجلاً.

(المستقبل)

السابق
العبادي ينجح بتأليف حكومة «تكنوقراط» رغم تحفظ الكتل
التالي
هل بدأ الأسد بتقديم التنازلات؟