السيد محمد حسن الأمين يتحدث عن جورج طرابيشي والعلمنة

يعتبر سماحة العلامة المفكر الاسلامي السيد محمد حسن الأمين "ان المفكر الراحل جورج طرابيشي كان واحداً من أبرز المفكرين الذين اشتغلوا على تحديث الفكر الفلسفي والأساسي والاجتماعي، ويمكن الإشارة إلى أن الراحل طرابيشي هو مفكر ذو خصائص ذاتية، أعني أنه ذو شخصية مستقلة بالرغم من أنه يندرج في إطار مفكري الدعوة إلى الحداثة في عصرنا الراهن، وسواء اتفق معه الرأي أو لم يتفق، فإن ذلك لا يقلل من أهمية هذا السيل الكبير من الكتابات المتعددة والمتنوعة والتي أنجزها دون توقف طوال حياته".

وأضاف السيد الأمين: “فيما يتعلق بموضوع العلمنة والتي طرحها الراحل طرابيشي بوصفها ضرورة للاجتماع العربي والإسلامي، وانتقد فيها في كتاب توجه فيه بالنقد إلى المفكر الراحل محمد عابد الجابري الذي طرح بدوره المشروع الفكري الجديد “نقد العقل العربي”، والذي تناول فيه عددا من المحاور التي تبناها الجابري ولكننا نتوقف عند موضوع العلمانية التي كان طرابيشي يريدها كاملة فيما الجابري رفضها بدعوى ان لا كنيسة في الاسلام. والحق أن موضوع العلمنة ليس محصوراً منذ أكثر من قرن بهذين الكاتبين الراحلين، فقد بدأ هاجس العلمنة منذ عصر النهضة وكان هناك رموز واضحة، او معروفة في الانتماء والدعوة إلى الفكر العلماني وتبّنيه وسيلة لحركة النهوض الجديدة بعد الفترة العثمانية، ولعلّ آثار فرح أنطوان وسلامة موسى في هذا المجال هي الأبرز دلالة على قيام تيار العلمنة في عصر النهضة وبعده بقليل”.

اقرأ أيضاً: العلمنة والدين والدولة: قراءة في الإشكالات(1/3)

ولكن كيف يمكن مقاربة العلمنة مع الاسلام وجمع فكرين متناقضين؟ يجيب السيد الأمين: “من جهتي كمشتغل في الفكر ومعني بالعمل على التجدّد الحضاري للمسلمين، فقد تناولت موضوع العلمنة في العديد من المقالات والمقابلات، وأودّ هنا أن أجتزئ من هذا الموضوع على نقاط محدودة ولكنها معبّرة، فمن النقاط الأساسية التي لا بد من الإحاطة بها هو أنّ الكثيرين من المتعاطين بالشأن الفكري الإسلامي لا يعرفون بدقّة ماذا يعني هذا المصطلح ولا المراحل التاريخية التي نشأت فيها العلمنة. وهو أن الدعوة إلى العلمنة التي تتضمن بالأساس نظرية فصل الدين عن الدولة هي نتاج مرحلة من مراحل الصراع بين الكنيسة الغربية وبين مفكري عصر الأنوار، حيث كانت الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة ناتجة عن السلطة التي تملكها وتمارسها الكنيسة لا في شؤون الدين فحسب بل في الشأن العام كله، حيث بدا أن الكنيسة بدأت تشكل سدّاً روحياً بين الدعوة إلى تقرير الاجتماع الغربي من سلطة الكنيسة، ويبدو ذلك في أبرز مواقفها ضدّ العلماء ومعطيات العلم الحديث، حيث كانت الكنيسة تعطي لنفسها صفة المرجعية ،حتى في الشؤون التي تتصل بمهمة العلم ومنها الحادثة المشهورة التي حاكمت فيها الكنيسة العالم “غاليلو” الذي اضطر أن يتراجع عن نظرية دوران الأرض تحت ضغط الكنيسة”.

المفكر الراحل جورج طرابيشي

ويتابع السيد الأمين: “من ناحيتي فإنني اعتبر العلمنة إنجازاً حضارياً نوعياً، ولا أعتبرها معادية لمبدأ الأديان ولا الدين المسيحي الذي يشكل دائرة عمل العلمانية، نعم هي بالتأكيد كانت ضدّ السلطة الدينية التي تأخذ شرعيتها بوصفه حقاً إلهياً أنيط بها، ولكي نختصر قليلاً أريد أن ألفت إلى ان الهجمة العنيفة من بعض المفكرين المسلمين على مبدأ العلمانية هو أمر يدعو إلى الاستغراب خصوصاً أو ان المعركة لم تكن بين الإسلام والعلمانيين، بل بين الكنيسة والعلمانية، وأن الإسلام في المجال الذي استغلت عليه العلمنة وهي السلطة بإسم الحق الإلهي المعطى للكنيسة ليست موجودة في الإسلام، بل من الواضح أن في الشريعة الإسلامية وفي العقيدة، أن أحداً من المسلمين إذا استثنينا الأنبياء والأوصياء الذين عاشوا فترة قصيرة جداً، لا أحد يمكنه أن ينطق بإسم هذا الحق الإلهي، لكي تكون سلطة حقيقية، لا بدّ لها أن تأخذ شرعيتها من الأمّة بما يشبه ماتضمّنه العقل الاجتماعي الذي نظرائه الفيلسوف الفرنسي “جان جاك روسو”.

ويستدرك السيد الأمين بقوله: “لا يعني ما أوردته أن الإسلام دين علماني بالكامل، ولكن أريد القول أن العناصر المفصلية في العلمنة موجودة في الإسلام، وأي أعلن بدون أي حرج أن السلطات التي تناوبت على حكم المسلمين بعد الخلافة الراشدة كلها سلطات غير شرعية، وإن كانت سلطات تتسم بأنها إسلامية، وأنا أعتقد أن أزمتنا الحضارية تكمن في عدم التمييز بين السلطة الإسلامية، والسلطة الشرعية، فنحن لسنا بحاجة إلى لسلطة إسلامية تضيف عهداً جديداً للعهود السابقة، ولكننا بحاجة إلى مفهوم جديد للسلطة لا بد أن يتضمن فصلاً معنياً بين المؤسسات الدينية والمؤسسات السياسية، ونحن لنجد فرصة لوضع أسس لاجتماع إسلامي جديد ما لم نوفّر شرعية العقد الاجتماعي للسلطة دون أن يعني ذلك التنكّر لمبادئ الدين وأحكامه، بل إننا نجد في سلطة موضوعية لا تحكم بإسم الدين فرصة حقيقية، لا لإنجاز نقلة حضارية في الاجتماع الإسلامي بل لحماية الإسلام مما علق ويعلّق به بسبب اتخاذه ذريعة للحصول على السلطة، وأبرز مثال على ذلك هو ما يجري ميدانياً وفي العصر الراهن من بروز تشكيلات وحركات تعلن أنها تستند إلى الشرعية الإسلامية، وهي في الوقت نفسه ترتكب أبشع أشكال القمع والتسلط على الناس بإسم الدين كتنظيم “داعش” وسواه من التنظيمات الإرهابية وفي حصيلة هذه المداخلة أودّ أن أضع أمام المفكرين والنخب الإسلامية مسؤولية عن إعادة النظر في موقفهم من العلمانية بعيداً عن الوهم المسيطر والقائل بأن العلمانية، اتجاه إلحادي”.

اقرأ أيضاً: العلمنة الكاذبة والاصولية المعطوبة: تجميل الاستبداد* (2/2)

وفي النهاية نقول انه “صحيح أنه يوجد علمانية ملحدة، ولكنها محدودة ودائرتها صغيرة بالمقارنة مع العلمانية المؤمنة، وبطبيعة الحال، فأنا أدعو إلى علمانية إسلامية مستندة إلى أن العلمانية القائمة في عصرنا ليست ذات وجه واحد وشكل واحد، وعلى سبيل المثال فالعلمانية في فرنسا تقوم على حماية الدولة من الدين، بينما العلمانية في أميركا تقوم على حماية الدين من الدولة، وهي بالنتيجة ليست إطاراً جامداً ولكنها من المرونة بالدرجة التي يمكن اعتبارها تراثاً حضارياً تستفيد منه الأمم كلها بما لا يتنافى مع هويتها”.

 

السابق
الحريري: نثمن الدور الكبير الذي تضطلع به روسيا في المنطقة
التالي
العثور على جثة عاملة أثيوبية مذبوحة في النبطية