رشى وصراعات من اجل بضعة الاف النسخ

المرحلة الثقيلة على لبنان في العامين ٢٠٠٤ و٢٠٠٥، حينها كانت المنطقة قد بدأت تدخل عصرا جديدا، الهجوم الاميركي على سوريا بعد الخلاف حول دور سوريا في دعم القاعدة في العراق والعديد من الملفات الاخرى، ودخول لبنان دائرة التجاذب ونهاية اتفاق الاطراف المؤسسة لاتفاق الطائف.
استقر رأي عماد مغنية، القائد الجهادي في حزب الله، على تأسيس صحيفة ورقية يتولى صديقه ابراهيم الامين ادارتها، عمل الامين على اقناع جوزف سماحة بمشاركته حلمه، خرج سماحة يوما على الاعلام ليقول من خلف مكتبه في الجريدة قيد التأسيس انه سينشر على صفحات اعداد الصحيفة اسماء المساهمين الماليين فيها وختم بالتأكيد: “هذا وعد”، وتوفي سماحة قبل الايفاء بوعده.

إقرأ أيضًا: السفير في مزادها العلني.. فتّش عن هوية الشاري!
لا شك بانه كان لدى سماحة المحنك في المهنة والضليع في الصحف وتأسيسها، والمحلل السياسي الذي لا يشق له غبار حلم بان يؤسس صحيفة ورقية يمولها القارئ، سواء عبر المبيع المباشر لاعدادها، او عبر حجم من القراء يسمح بتحويلها الى منصة اعلامية جذابة لشركات الاعلانات والمعلنين الافراد. وكان لدى الخلية الاولى للجريدة مجموعة من الاحصاءات والارقام تشير الى ان انتشارها يجب ان يصل الى عشرات الاف القراء من اللبنانيين القادرين على شراء صحف ورقية.
ولكن، الحياة اليومية لا تسير بهذا الاتجاه في البلاد، فاولا اللبنانيون ليسوا تاريخيا من هواة قراءة الصحف، ليس على النمط الغربي، وثانيا فان افضل صحيفة في تلك الفترة كانت تبيع اقل من عشرة الاف نسخة بما في ذلك الاشتراكات للسفارات والسياسيين والنقابات.

مجلس امناء

وصلت الدفعة الاولى من الاموال الى اصحاب مشروع “الاخبار”، قيدت في حساباتهم، وبدأ السعي لانشاء “مجلس امناء” للجريدة، زار ابراهيم الامين عدد من الشخصيات، وفي جلسة مصارحة مع الرئيس الاسبق سليم الحص يقول لي الرجل بغضب من موقف “الاخبار” السلبي منه، وكنت حينها من العاملين في هذه الصحيفة:”لقد زارني ابراهيم الامين مع بدايات تأسيس الجريدة، وطلب مني ان اكون في مجلس امنائها، فاجبته بان ما يطلبه مستحيل، فكيف لي ان اكون في مجلس امناء صحيفة لا اعرف مصادر تمويلها ولا الشركاء الحقيقيون في صنع سياستها؟ وحينها اختفى ابراهيم ومع صدور الجريدة اختفت اخباري منها ايضا”.
مع نهاية حرب تموز وقف جوزف سماحة امام عدسة كاميرا الجزيرة في زيارة منسقة للضاحية الجنوبية، وتحدث عن العدوان الاسرائيلي، والمواجهة، وحين عاد يومها الى الصحيفة، قال لي “ان المرحلة المقبلة هي مرحلة الصراع الحقيقي، هناك نزاع هائل سيسود لبنان حول تطبيق القرار الدولي ١٧٠١، وهذه هي المعركة الفعلية”.
ربما ما لم يكن يعلمه سماحة انه خلال وقوفه في الضاحية كان الامين العام لحزب الله حسن نصرالله يلتقي بامير قطر حمد بن خليفة ال ثاني، وهو اللقاء الذي سيطلعني احد ضباط امن حزب الله على جزء من محضره السنة اللاحقة، ويقول المحضر بان الامير، وعند الوصول الى نقاش البند الاعلامي طرح المساهمة القطرية في دعم الاعلام المقاوم، فرد الامين العام بالشكر، وبالقول ان الحزب يتولى شؤون اعلامه بالكامل، ولكن الحزب سيقدر عاليا مساهمة قطر في دعم مؤسسات صديقة مثل جريدة الاخبار حديثة الانشاء، وتلفزيون الجديد.

مساهمات حميدة

لم تكن تلك المرة الاولى التي تساهم فيها قطر، كغيرها من الدول في دعم المؤسسات الاعلامية، اي تمويلها، فحين وصل الامير القطري الى سدة حكمه بعد اسبتعاد والده طار طلال سلمان صاحب جريدة السفير الى الدوحة واجرى سلسلة من المقابلات مع الامير الشاب نشرت على الصفحة الاولى للسفير، ومن يومها، ومع بداية عصر الغاز القطري، تحولت قطر الى مصدر يطمح اصحاب المؤسسات الاعلامية اللبنانية المختلفة الى الحصول على تمويل منه، او الى استثارة حماسة المملكة العربية السعودية للاسراع بتمويل هذه المؤسسات قبل ان تمتد “يد العون” القطرية اليها.
سوريا من ناحيتها ايضا ساهمت على طريقتها بتمويل بعض المؤسسات الاعلامية، اشترت وزارة الاعلام اعدادا ضخمة (نسبيا) من صحف لبنان، الديار، السفير، الاخبار، وكان احتجاب عدد عن السوق السورية بسبب الرقابة، ونشر مواد لا تتناسب مع السياسة السورية وتمنع دخول العدد الى اسواق دمشق يعتبر خسارة مؤلمة لصحف تبيع يوميا بضعة الاف من الاعداد لوزارة الاعلام في الدولة المشهود لها بالرقابة القاسية على الاعلام.

اسرار الطبعات

الصحف في لبنان تطبع ما بين اربعة الى ١٢ الف عدد لكل صحيفة، وتحافظ كل الصحف على عدد النسخ المطبوعة كسر من اسرارها المقدسة، تماما مثل مصادر تمويلها، ولكن احدى اكبر الصحف اللبنانية انتشارا فشلت ومنذ اعوام في تسويق اكثر من خمسة الاف عدد، وبدأ الرقم بالتراجع منذ العام ٢٠٠٦، ووصل الى ثلاثة الاف من النسخ الورقية، الرقم المعلن او المتخيل يفوق ذلك باضعاف، ولكن الواقع وشركات التوزيع والدوائر المختصة في الصحف تورد ارقاما واضحة، وقد اتيحت لي الفرصة عدة مرات، عن طريق الصدفة او الحشرية او الحظ بالحصول على جداول ارقام مطبوعات العديد من الصحف اللبنانية.
احدى الصحف التي حاولت الايحاء بانها تعتمد على بيع النسخ الورقية كانت تطبع حوالي سبعة الاف نسخة يوميا، وبفضل تصدير الصحيفة الورقية الى سوريا طبعت ١٥٠٠ نسخة اضافية تولت وزارة الاعلام السورية دفع ثمنها، وحين كانت دمشق تغضب من موقف الصحيفة كانت توقف دفع ثمن الاعداد لعدة اشهر، واحيانا تعفي نفسها من دفع المتأخرات.
لم تكن سوريا وحدها من يدعم الصحف، ولا ايران، ولا قطر، ولا حتى المملكة السعودية، او ليبيا، تقريبا لم يبق دولة عربية، واحيانا جهاز امني غربي، لم يدعم صحيفة من الصحف اللبنانية، او المؤسسات الاعلامية، وحاليا المواقع على شبكة الانترنت، مرة على الاقل، او بشكل متواصل.

الوطن الثاني

في العام ١٩٦٤ وحين التقى الرئيس شارل حلو رؤوساء تحرير الصحف اللبنانية قال لهم مرحبا:” اهلا بكم في وطنكم الثاني لبنان”. في اشارة واضحة الى تبعية هؤلاء الى الدول الحليفة والصديقة والعدوة على حد سواء.
فمن العراق كانت ترد اموال الى صحف تم تفجيرها من قبل المخابرات السورية خلال مرحلة تنازع البعثين، ومن منظمة التحرير دعمت صحف اخرى، ودعم الغرب واجهزته الامنية خاصة صحفا عديدة في لبنان، وتسلل الاعلام الاسرائيلي لدعم مؤسسات، كما انشأ مؤسسات في خلال مراحل احتلاله للبنان، وليبيا كانت “اكرم” من غيرها في دعم العديد من المؤسسات، وحين طالب القذافي في مرحلة لاحقة باستعادة احدى اشهر المؤسسات التي دعمها، تملص صاحبها وتمكن من مغادرة لبيبا بحسب ما اخبرني ليبيون، خلال مرحلة اضطراب سريعة في البلاد، ونقل بندقيته الى كتف اخر.
ولكن لا تناقض بين ان يتلقى طلال سلمان لسفيره الدعم من ليبيا ويتبنى قضية رئيسية لدى الطائفة الشيعية كقضية الامام موسى الصدر، ففي بلادنا التناقضات مسألة لا تفسد للود قضية. وما من داع للنقد الذاتي او تلاوة فعل الندامة بعد كل معصية.
ففي البلاد تملك كل طائفة منبرها الاعلامي، ولا ينشأ منبر اعلامي لا يمثل طائفة محددة، حتى جريدة الاخبار، التي كان جوزف سماحة من مؤسسيها، وضمت عاملين على شاكلته في علمانيتهم، الا انها كانت قائمة على جذب جمهور شيعي مؤيد لحزب الله، واستراضاء جمهور مسيحي مؤيد لميشيال عون، بغض النظر عن الدور الاساسي لوسائل الاعلام وهو :”التأثير في اوسع جمهور ممكن”.
نافست الاخبار الناشئة السفير المخضرمة بين حرب اهلية وسلم ملتبس، السفير لم تتمكن من علاج نفسها من عقدتي “صحيفة الحرب الأهلية” و”صحيفة المسلمين وخاصة الشيعة”، وبينما غطت الاخبار على منافسة غريمتها ممثلة الطائفة الشيعية بشعارات جذرية في تأييد المقاومة ومعارضة سلطة قوى ١٤ اذار في مرحلة التأسيس.

افول طوائف

النهار وافولها يمثلان مرحلة محزنة من مصير المارونية السياسية في لبنان ونهاية الوجود المسيحي في المنطقة، وانزلاق رؤوس الاموال والنفوذ السياسي والاجتماعي والاداري ومؤسسات الدولة اللبنانية الى طوائف اخرى وخاصة تلك الاسلامية، وبداية اندثار اي امل للمسيحيين بالعودة الى تصدر المشهد الاعلامي او الثقافي او السياسي او الاقتصادي في البلاد. وان كان الارثوذكس يلعبون دور المثقف المرشد والعريق للمستثمر الماروني في لبنان، فانهم اليوم يفقدون اخر ما يربطهم بماضيهم المحلي والخدماتي.
جريدة المستقبل التي تردد رفيق الحريري طويلا قبل انشائها، وتركها تصدر كنشرة صغيرة في بداياتها، فقدت دورها، وجمهورها الذي انفض من حول سعد الحريري وفضل وسائل اعلامية اخرى، او تابع ببساطة مجريات الاحداث التي تهمه عبر هاتفه وليس من دون ان ينقل عن شبكة المنارة البيضاء او وكالة اعماق التابعة لتنظيم الدولة الاسلامية، وبقي جمهور قليل الفاعلية من الفئات السنية المتعلمة، وخاصة من ابناء المدن يفضل متابعة وسائل اعلام تقليدية او ترفيهية.
في العام ٢٠٠٩، وفي خضم المعركة الانتخابية النيابية، كانت لوائح رشى الصحافيين تحمل اسماء الكل تقريبا، اغلبية الماكينات الرئيسية وزعت رشاها سرا وعلانية على صحافيين وكتاب رأي ومدراء تحرير في الصحف، واحيانا كثيرة كانت تشمل اللوائح اسماء من الصحف المعادية قبل الصحف الموالية. كانت الاموال تنفق دون حساب، دفعت قوى ١٤ اذار مبالغ طائلة، ودفعت كذلك قوى الثامن منه ارقاما فلكية، وكانت حصة الاعلام وازنة لدى الطرفين، وبعض من جندتهم الانتخابات حافظوا على ولائهم لمصدر الرشى لما بعد الحملات الانتخابية وتحولوا الى اختراقات لهذا الطرف او ذاك.

إقرأ أيضًا: سلمان: بائع الدخان يعرف مصادر تمويلنا
في العام ٢٠١٦، ومع تحول السياسة السعودية تجاه لبنان، اوقفت الممكلة مساعدتها لروؤساء تحرير صحف وصحف وصحافيين وكتاب، بعد ان تبين عدم فاعلية هؤلاء، او عدم اكتراثهم بخدمة ما يدفع لهم من اجله. وكانت ايران قد خفضت بالمقابل مساعداتها للاعلام والاعلاميين كما للقوى السياسية نتيجة استنزافها في الحرب السورية وانخفاض اسعار النفط. واليوم يمكن بسهولة تلمس مستقبل الدعم الايراني، حيث لا ضرورة لدفع الملايين من اجل مواجهة العدو السعودي المنسحب من لبنان. يمكن الاكتفاء بالقاء الفتات فقط.

(صحافة غير منضبطة)

السابق
الخارجية القبرصية: بين 15 إلى 20 راكبا ما زالوا على متن الطائرة المخطوفة ولا تأكيدات إن كان لدى الخاطف حزام ناسف
التالي
إفتتاح مؤتمر حماية التعددية والعيش معاً