محمد العبد الله وشخصية الشاعر

محمد العبدلله

دخلتُ كلية التربية في أوائل السبعينات، وكان عرشها يكتظّ بملوك السياسة والشعر: الأحزاب اليسارية بداهةً، في ذلك الوقت، وتلك اليمينية المتخاصمة معها؛ تنافسها مجموعة من الشعراء معروفة باسم “شعراء الجنوب”. وتربّعهم سبق دخولنا إلى الكلية بسنوات قليلة، قادرة لوحدها أن تصنع السمعة الملوكية. فالشباب أولئك، فوق وسامتهم وظرافتهم، كانوا يحيون مناخ الكلية الخاص جداً، المشحون بجرعات  الإستئناس والألفة.

إقرأ أيضًا: الشاعر محمد العبدالله على رصيف الوطن.. والخيام

قهقهةٌ واحدة من أحدهم في الكافيتيريا، في المكتبة، أو في الباحة الخارجية حيث المقاعد الخشبية… قهقهةٌ واحدة كانت تضخّ علينا الإنشراح والسرور. هم نجوم مهرجانات الشعر التي تنظمها الكلية؛ خارج “شعراء الجنوب لا شعراء”، كنا نقول بثقة العارفين، حتى لو أتوا من الشمال او الشرق… شيء عميق في داخلنا، أو ثقافة اليسار نفسها، كان يهمس لنا، بأن الآتين من ذاك الجنوب، الأكثر تعرّضا للحرمان ولإسرائيل، هم الذين يستحقون المكانة الشعرية المميزة. ولكن أيضاً، الموهبة والشخصية؛ كل واحد من المجموعة كانت له علامات تقييم عندنا، نحن عصابة “الفارسات الثلاث”، هدى وماري تيريز وأنا. لا نختلف إلا عند تناولنا محمد العبد الله، الألمع من بين نظرائه من “شعراء الجنوب”. بقامته العملاقة المتثاقلة، وكثافة حاجبيه وشاربيه، وعيونه الملتمعة السوداء، بصوته الكهْفي، كان ينْضح شهوانية وطرافة. وكان هذا المزيج الأخير بالذات يحيّرنا: كيف يجمع بين الفظاظة والرقّة؟ بين الحزن والضحك؟ كيف تكون موهبته الشعرية على هذا القدر من التميز، شخصيته على هذا القدر من الطغيان، وهو غير مدرك ذلك، غير منتبه له؟

كان علينا ان نشهد خاتمة حياته لنقطع الشك باليقين: أربعة عقود مرت على تلك الحيرة، وها نحن نقترب من فك لغزنا: محمد عبد الله هو الاثنين معاً. هو التهور وصفاء الذهن، والحزن والفرح، والرقة والشقاء، والضحك والتجهّم.

أكثر التناقضات وزناً يظهر الآن، بعدما ختم الموت آخر فصول حياته: ان محمد العبد الله، الذي كان واعداً ببلوغ المصاف الأول في “تراتبية” الشعراء العائشين، أمضى سنواته خارج الشاشة، خارج الساحة، من دون أن ترفعه غزارة إنتاجه درجة واحدة في هذه “التراتبية”.

لماذا لم “يأخذ” العبد الله “حقه من هذه الدنيا” كما يأخذ الشعراء “الكبار”، الحاضرون في يومياتنا؟ لأنه لم يكن مصابا بمرض “الإعتراف”: تلك الآفة التي أصابت الغالبية العظمى، ليس من الشعراء وحسب، بل ومن له علاقة بصناعة الكلمة. صحته النفسية هذه أعفته من اللهاث خلف الجوائز والتلفزيون، والمؤتمرات، ورئاسة الأقسام (أو أي شيء آخر)، والترجمة إلى اللغات الاجنبية، أو تكوين واحدة من الشلل الطامحة الى التحكّم بـ”سوق” الثقافة الخ. وهذه نقطة “ضعف”، كما يروج أصحاب “الطموحات” العالية، مرفقة بـ”قلة ذكاء” يضيف آخرون، أو جهل بـ”مصلحته”.

كان العبد الله يحب كتابة الشعر والنثر لذاتهما. الكتابة تفرحه؛ من نوع ذاك الفرح  الذي لا تجد كلماته إلا على لسان الأطفال. مملكته ليست من هذه الدنيا، التي يعرفها تماماً، ولا من الآخرة، التي لا يهتم لألغازها. مملكته هي عالمه الداخلي، صانع الصور والأغاني، ومخترع المناخات. طاقة تسعده من دون أن يدرك مداها ولا نهايتها. هي التي تخرج شعره من دون تنقيح… يأتيه بالسليقة، هكذا، مرة واحدة وأخيرة، مثل برق خاطف، ينير دروب عواطفنا. وهي تلك الطاقة الهائلة التي تفتح له أبواب الشعر “اللاشعري”؛ شعر لا يتصور صاحبه لحظة انه منذور للمنابر، للهيبة، للإمتيازات… شعر على قدر حريته الداخلية: لا تذويق فيها، ولا توسّل، ولا فراغات.

إقرأ أيضًا: في ذكرى محمد العبد الله

كثيرون من بين الشعراء وغيرهم من الكتاب حاولوا تقمص شخصية الشاعر، بأن افتعلوا مواقف تُفهم الحاضرين انهم، مثل العبد الله، “مجانين”… لا يفهمون “مصلحتهم”. وهذه لعبة طالت إلى حدّ انها صارت مثل شخصيتهم “الثانية”، شبه الكوميدية، تحكم سلوكهم العام، البادي على الشاشة. لكن الشخصية الثانية تبقى ثانية، ولا تغري إلا الجاهلين بوجود شعراء ظل كبار مثل العبد الله، الناسفين لكل الحسابات، إلا حساب أناه الشعرية، المزْهرة الخضراء. خضرة يتركها لنا بعد رحيله، ينثر بيننا خفّة الوجود بذرّات من الحب والجمال.

السابق
اللبنانيون يقاطعون أحلام.. فهل تستبعد من آرب أيدول؟
التالي
في ملف «السفير»… فتش عن الوزير!‏