عقيدة أوباما: الرئيس الأميركي يعرض شرحا ضافيا لأصعب قراراته حول دور أميركا العالمي (الجزء الثاني)

كان أوباما يعرف أن قراره عدم قصف سورية سوف يزعج حلفاء أميركا على الأغلب. وقد فعل. وقال لي رئيس وزراء فرنسا، مانويل فالس، إن حكومته كانت تشعر بالقلق مسبقاً من تداعيات التقاعس عن العمل في سورية عندما جاءتها الأخبار عن تراجع أوباما. وقال لي فالس: “بعدم التدخل في وقت أبكر، خلقنا وحشاً. كنا متأكدين تماماً أن الإدارة الأميركية سوف تقول نعم للعمل. كنا قد حددنا الأهداف مسبقاً بالعمل مع الأميركيين. كان ذلك مفاجأة عظيمة. أعتقد أن الأشياء كانت ستختلف كثيراً اليوم لو أننا قصفنا كما كان مخططاً”. وقال ولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد آل نهيان، الذي كان غاضباً أصلاً من “تخلي” أوباما عن الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، قال غاضباً لزوار أميركيين إن الولايات المتحدة يقودها رئيس “غير جدير بالثقة”. وملك الأردن عبد الله الثاني -المستاء مسبقاً مما رآه على أنه رغبة أوباما غير المنطقية في النأي بالولايات المتحدة عن حلفائها التقليديين من العرب السنة وخلق تحالف جديد مع إيران، راعية الأسد الشيعية- قال في جلسة خاصة: “أنا أؤمن بالقوة الأميركية أكثر مما يفعل أوباما”. كما غضب السعوديون أيضاً. إنهم لم يثقوا أبداً بأوباما -كان قد أشار إليهم، قبل وقت طويل من أن يصبح رئيساً، على أنهم “ما يدعى حليفاً” للولايات المتحدة. وقال الجبير، السفير السعودي في واشنطن، لرؤسائه في الرياض: “إن إيران هي القوة العظمى الجديدة في الشرق الأوسط، والولايات المتحدة هي القديمة”.
تسبب قرار أوباما في هزات عبر واشنطن أيضاً. كان جون مكين ولندسي غراهام، الصقران الجمهوريان الأبرز في مجلس الشيوخ، قد اجتمعا مع أوباما في البيت الأبيض في وقت سابق من الأسبوع، وتلقيا وعداً بشن هجوم. وقد أغضبتهما هذه الاستدارة الكاملة. كما وقع الضرر أيضاً حتى في داخل الإدارة نفسها. لم يكن أي من تشاك هاغل، وزير الدفاع في ذلك الحين، ولا جون كيري، حاضرين في المكتب البيضاوي عندما أعلم الرئيس فريقه بأفكاره الجديدة. ولم يعرف كيري عن التغيير قبل وقت متأخر من ذلك المساء. وقال لصديق بعد فترة قصيرة من التحدث مع الرئيس في تلك الليلة: “لقد ذهلتُ تماماً فحسب”. (عندما سألت كيري مؤخراً عن تلك الليلة المضطربة، قال “إنني لا أكف عن تحليل الأمر. خمنت أن لدى الرئيس سببا لاتخاذ القرار، وبصراحة، فهمت فكرته”).
كانت الأيام القليلة التالية فوضوية. طلب الرئيس من الكونغرس منح تفويض باستخدام القوة -وعمل كيري الذي يتعذر كبحه رئيساً لجماعة الضغط- وسرعان ما اتضح في البيت الأبيض أن للكونغرس قليلا من المصلحة في توجيه ضربة. وعندما تحدثت مع بايدن مؤخراً عن قرار أوباما عدم إنفاذ تهديد “الخط الأحمر”، علق بملاحظة خاصة عن هذه الحقيقة. قال: “من المهم أن يكون الكونغرس إلى جانبك، إلى جانب قدرتك على استدامة ما تنوي فعله”. إن أوباما “لم يذهب إلى الكونغرس ليخلص نفسه من الصنارة. كانت لديه شكوكه عند تلك النقطة، لكنه كان يدرك أنه إذا أراد فعل أي شيء، فإن من الأفضل له بكثير أن يكون الجمهور معه، أو أن مسعاه سيكون رحلة قصيرة جداً”. وقد أقنع تردد الكونغرس الواضح في منح التفويض جو بايدن بأن أوباما كان على حق في تخوفه من المنحدر الزلق. وتساءل بايدن: “ما الذي يحدث لو أن طائرة سقطت؟ ألا نذهب إلى هناك للإنقاذ؟ يجب عليك أن تدعم الشعب الأميركي”.
وسط ذلك الارتباك، ظهرت آلة خارقة عملاقة في شكل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين. في قمة العشرين في سانت بطرسبرغ، التي عُقدت بعد أسبوع من عكس قرار سورية، سحب أوباما بوتين جانباً، كما تذكر وهو يحدثني، وقال للرئيس الروسي أنه “إذا أجبر الأسد على التخلص من الأسلحة الكيميائية، فإن ذلك سيلغي حاجتنا إلى توجيه ضربة عسكرية”. وفي غضون أسابييع، سوف يهندس جون كيري، بالعمل مع نظيره الروسي سيرغي لافروف، أمر إزالة معظم ترسانة الأسلحة الكيميائية السورية -وهي برنامج كان الأسد قد رفض حتى ذلك الحين مجرد الاعتراف بوجوده.
جلب ذلك الترتيب الثناء على الرئيس، من بين جميع الناس، من بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل الذي كانت علاقته معه مثيرة للجدل على الدوام. فقد شكلت إزالة مخزونات أسلحة سورية الكيميائية “شعاع الضوء الوحيد في منطقة بالغة الظلمة”، كما قال لي نتنياهو بعد وقت قصير من الإعلان عن ذلك الاتفاق.
لا يعرض جون كيري اليوم أي صبر أمام أولئك الذين يجادلون اليوم -كما فعل هو نفسه ذات مرة- بأن أوباما كان يجب أن يقصف مواقع نظام الأسد من أجل تأكيد قوة الردع الأميركية. وقال لي عن ذلك: “كانت ستظل لديك أسلحة هناك، وربما كنتَ الآن بصدد مقاتلة داعش من أجل السيطرة على الأسلحة”، مشيراً إلى مجموعة “الدولة الإسلامية” الإرهابية. وأضاف: “لا يبدو ذلك معقولاً فحسب. لكنني لا أستطيع أن أنكر أمامك أن تلك الفكرة عن تعرض الخط الأحمر للتجاوز، وعدم فعل (أوباما) أي شيء حيال ذلك، قد كسبت حياة خاصة بها وحدها”.
يدرك أوباما جيداً أن المؤرخين سوف يستنطقون بلا رحمة القرار الذي اتخذه بالتراجع عن الضربات الجوية لسورية، والسماح بأن يذهب تجاوز خط أحمر كان قد رسمه هو نفسه من دون عقاب. لكن ذلك القرار يشكل اليوم مصدر ارتياح عميقا بالنسبة له.
قال لي الرئيس: “إنني فخور جداً بهذه اللحظة. لقد ابتعد الوزن الساحق للاعتقادات السائدة ولآلة مؤسسة أمننا القومي مسافة جيدة. كان التصور هو أن مصداقيتي كانت على المحك، وأن مصداقية أميركا كانت على المحك. وحتى الآن بالنسبة لي، كان ضغط زر الإيقاف في تلك اللحظة، كما أدركت، سيكلفني سياسياً. وحقيقة أنني تمكنت من الابتعاد عن الضغوط المباشرة والتفكير ملياً وحدي في تقدير ما هو أفضل لمصالح أميركا -ليس فقط فيما يتعلق بسورية، وإنما أيضاً فيما يتعلق بديمقراطيتنا- كان ذلك قراراً صعباً اتخذته. وأعتقد في نهاية المطاف أنه كان القرار الصحيح الذي ينبغي اتخاذه”.
قال الرئيس: “أين يجعلني ذلك مثيراً للجدل؟ عندما يأتي الأمر إلى استخدام القوة العسكرية، فإن ذلك هو مصدر الجدل. هناك كتاب لقواعد اللعبة في واشنطن، والذي يفترض في الرؤساء أن يتبعوه. وهو كتاب يأتي من مؤسسة السياسة الخارجية. ويصف كتاب قواعد اللعبة هذا ماهية الردود على الأحداث المختلفة، وتميل تلك الاستجابات إلى أن تكون عسكرية. وحيث تكون أميركا مهددة مباشرة، فإن كتاب القواعد هذا يعمل. لكن كتاب قواعد اللعبة يمكن أن يكون أيضاً مصيدة ربما تقود إلى اتخاذ قرارات خاطئة. وسط تحد دولي مثل سورية، سيتم الحكم عليك بقسوة إذا لم تتبع القواعد المذكورة في الكتاب، حتى لو أن هناك أسباباً وجيهة لتفسير عدم انطباق تلك القواعد على واقع الحال”.
خلصت إلى الاعتقاد بأن 30 آب (أغسطس) 2013 كان في ذهن أوباما بمثابة يوم تحرره؛ اليوم الذي لم يتجاهل فيه مؤسسة السياسة الخارجية وكتاب قواعدها لاستخدام صواريخ كروز فحسب، وإنما تجاهل أيضاً مطالب حلفاء أميركا المغيظين ومكلفي الصيانة في الشرق الأوسط -بلدان تسعى، كما يشتكي لأصدقائه ومستشاريه في الجلسات الخاصة، إلى استغلال “العضلات” الأميركية لخدمة غاياتها الخاصة الضيقة والطائفية. وبحلول العام 2013، كان استياء أوباما قد تطور إلى حد كبير. أصبح مستاءً من قادة الجيش الذين يعتقدون أنهم يستطيعون إصلاح أي مشكلة إذا منحهم القائد الأعلى ببساطة ما يريدون. وكان مستاءً من مجمع مؤسسات الفكر والرأي المختصة بالسياسة الخارجية. وكان هناك شعور سائد إلى حد كبير في داخل البيت الأبيض بأن العديد من أكثر المؤسسات الفكرية المشتغلة بالسياسة الخارجية بروزاً في واشنطن، إنما تقوم فقط بتنفيذ عطاءات لصالح مموليها من العرب ومؤيدي إسرائيل. وقد سمعت مسؤولاً في الإدارة يشير إلى جادة مساشوستس، حيث توجد مقرات العديد من هذه المؤسسات الفكرية، باسم “الأراضي العربية المحتلة”.
بالنسبة لبعض خبراء السياسة الخارجية -حتى في داخل إدارته نفسها- كان انقلاب أوباما على فرض الخط الأحمر لحظة محبطة، والتي عرض فيها الرئيس كلاً من التردد والسذاجة، وألحق ضرراً دائماً بموقف أميركا في العالم. وقال لي ليون بينيتا مؤخراً، والذي عمل مديراً لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ثم وزيراً للدفاع في ولاية أوباما الأولى: “اعتقدت في ذلك الحين أن مصداقية القائد العام وهذه الفكرة نفسها سيكونان على المحك إذا لم يقم بإنفاذ التهديد”. ومباشرة بعد تراجع أوباما، قالت هيلاري كلينتون في حديث خاص: “إذا قلتَ إنك ستضرب، فعليك أن تضرب. ليس هناك خيار”.
وفي ذلك الوقت، كتب شادي حميد، الباحث في معهد بروكينغز، في مجلة “الأتلانتيك”: “تتم الآن مكافأة الأسد عملياً على استخدامه الأسلحة الكيميائية، بدلاً من “معاقبته” كما كان مقرراً في الأساس. لقد تمكن من إزالة تهديد عمل عسكري أميركي بينما يعطي القليل جداً في المقابل”.
وحتى المعلقين الذين كانوا متعاطفين عموماً مع سياسات أوباما، نظروا إلى ذلك الفصل على أنه كارثي. وكتب جدعون روز، محرر مجلة “فورين أفيرز” مؤخراً أن معالجة أوباما لهذه الأزمة -“إعلانه في البداية عن التزام كبير، ثم تعثره في الوفاء به، ثم إلقاء الكرة بشكل محموم في ملعب الكونغرس من أجل استصدار قرار- شكل كله حالة دراسة للارتجال وعمل الهواة بطريقة محرجة”.
مع ذلك، يقول المدافعون عن أوباما إن قراره عدم إنفاذ التهديد الخاص بعبور الخط الأحمر لم يلحق أي ضرر بمصداقية الولايات المتحدة، مستشهدين بموافقة الأسد اللاحقة على إزالة أسلحته الكيميائية. وقال لي تيم كين، السيناتور الديمقراطي من فيرجينيا: “كان ذلك التهديد بالقوة موثوقاً بما يكفي بالنسبة إليهم ليجعلهم يتخلون عن أسلحتهم الكيميائية. لقد هددنا بعمل عسكري وهم استجابوا. هذه هي مصداقية الردع”.
ربما يسجل التاريخ يوم 30 آب (أغسطس) 2013 على أنه اليوم الذي منع فيه أوباما الولايات المتحدة من دخول حرب أهلية إسلامية كارثية أخرى، واليوم الذي أزال فيه تهديد احتمال شن هجوم كيميائي على إسرائيل وتركيا والأردن. أو أنه ربما يتم تذكره على أنه اليوم الذي جعل فيه أوباما الشرق الأوسط ينزلق من قبضة أميركا، إلى أيدي روسيا وإيران و”داعش”.
كنت قد تحدثت مع أوباما عن السياسة الخارجية أول الأمر عندما كان عضواً في مجلس الشيوخ الأميركي في العام 2006. وفي ذلك الوقت، كنت على دراية بشكل خاص بنص خطبة كان قد ألقاها قبل أربع سنوات من ذلك، في نشاط مناهض للحرب أقيم في شيكاغو. كانت تلك كلمة غير عادية لتلقى في مناسبة مناهضة للحرب، لأنها لم تكن مناهضة للحرب؛ فقد جادل أوباما، الذين كان في ذلك الحين عضو مجلس الشيوخ عن ولاية إلينوي، ضد حرب واحدة محدودة فحسب، والتي كانت ما تزال مجرد حرب نظرية في ذلك الحين. قال: “ليست لدي أي أوهام إزاء صدام حسين. إنه رجل وحشي. رجل لا يرحم… لكنني أعرف أيضاً أن صدام لا يشكل أي تهديد وشيك ولا مباشر للولايات المتحدة أو لجيرانه”. وأضاف: “إنني أعرف أن غزواً للعراق بلا تبرير منطقي ومن دون دعم دولي قوي سوف يزيد نيران الشرق الأوسط اشتعالاً فقط، وسوف يشجع أسوأ -وليس أفضل- نوازع العالم العربي، وسوف يقوى ذراع التجنيد لتنظيم القاعدة”.
في ذلك الحين، جعلتني هذه الكلمات فضولياً إزاء صاحبها. أردت أن أعرف كيف أن سيناتوراً من ولاية إلينوي، وأستاذ قانون يعمل بدوام جزئي ويمضي أيامه متنقلاً بين شيكاغو وسبرنغفيلد، وصل إلى فهم أكثر بصيرة لكابوس قادم من أكثر مفكري السياسة الخارجية خبرة في حزبه، بمن فيهم شخصيات مثل هيلاري كلينتون، وجو بايدن، وجون كيري -ناهيك بطبيعة الحال عن ذكر معظم الجمهوريين ومعظم محللي السياسة الخارجية وكتابها، بمن فيهم أنا شخصياً.
منذ ذلك اللقاء الأول في العام 2006، أجريت مقابلات مع أوباما بشكل دوري، حول شؤون تتصل بالشرق الأوسط في أغلب الأحيان. لكنني قضيت على مدى الأشهر القليلة الأخيرة ساعات عدة من الأحاديث معه حول الموضوعات الأكثر عمومية من “اللعبة الطويلة” التي خاضها في السياسة الخارجية، بما فيها موضوعات بدا أكثر حرصاً على مناقشتها -وبالتحديد تلك التي ليست لها أي صلة بالشرق الأوسط.
قال لي أوباما في واحدة من هذه المحادثات: “إن الدولة الإسلامية ليست تهديداً وجودياً للولايات المتحدة. لكن التغير المناخي هو تهديد وجودي محتمل للعالم كله إذا لم نفعل شيئاً حياله”. وشرح أوباما أن التغير المناخي يقلقه بشكل خاص لأنه “مشكلة سياسية مصممة بشكل مثالي لصد التدخل الحكومي. إنها مشكلة تشمل كل بلد، وهي حالة طارئة تتحرك بخطى بطيئة نسبياً. لذلك، هناك دائماً شيء يبدو في ظاهره أكثر إلحاحاً (من مشكلة المناخ) على الأجندة”.
في هذه اللحظة، بطبيعة الحال، تشكل سورية المسألة الأكثر إلحاحاً من بين تلك القضايا التي “تبدو في ظاهرها أكثر إلحاحاً”. لكن بالوسع أيضاً، في أي لحظة مُعطاة، قلب رئاسة أوباما كلها رأساً على عقب بعدوان من كوريا الشمالية، أو هجوم تشنه روسيا على دولة عضو في حلف شمال الأطلسي، أو وقوع هجوم من تخطيط “داعش” على الأرض الأميركية. وقد واجهَت قلة من الرؤساء مثل هذه الاختبارات المتنوعة على الساحة الدولية كما فعل أوباما. وكان التحدي الأبرز بالنسبة له، ولكل الرؤساء، هو التمييز الدقيق بين المُلِحّ فقط والمهم حقاً، والتركيز على المهم.
كان هدفي في محادثاتنا الأخيرة هو رؤية العالم من خلال عيون أوباما، وفهم ما يعتقد أنه ينبغي أن يكون دور أميركا في العالم. وتستنير هذه المادة بالسلسلة الأخيرة من محادثاتنا التي جرت في المكتب البيضاوي؛ على مأدبة غداء في غرفة طعامه؛ على متن الطائرة الرئاسية؛ وفي كوالالمبور خلال زيارته الأخيرة إلى آسيا في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. كما تستنير هذه المادة أيضاً بمقابلاتي السابقة معه وبخطاباته وتأملاته العامة الغزيرة، فضلاً عن حوارات خضتها مع كبار مستشاريه لشؤون السياسة الخارجية والأمن القومي، ومع الزعماء الأجانب وسفرائهم في واشنطن، ومع أصدقاء الرئيس وآخرين ممن تحدثوا معه حول سياساته وقراراته، وخصومه ومنتقديه.
على مدار أحاديثنا، أصبحت أرى أوباما كرئيس يصبح أكثر قدّريَّة باطراد إزاء محدوديات قدرة الولايات المتحدة على توجيه الأحداث العالمية، حتى مع أنه راكم في وقت متأخر من رئاسته مجموعة من الإنجازات التي ربما تكون تاريخية في السياسة الخارجية -إنجازات مثيرة للجدل، ومؤقتة بالتأكيد، لكنها تظل إنجازات مع ذلك: الانفتاح على كوبا؛ اتفاقية تغير المناخ في باريس؛ اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ؛ وبطبيعة الحال، اتفاق إيران النووي. وقد صنع أوباما هذه الإنجازات على الرغم من شعور متنام لديه بأن ثمة قوى أكبر -تياراً معاكساً من الشعور القبَلي في عالم ينبغي أن يكون قد تخلص مسبقاً من رجعيته؛ صمود الرجال الصغار الذين يحكمون بلداناً كبيرة بطرق مناقضة لأفضل مصالحها؛ تواصل سيادة الخوف باعتباه الشعور الإنساني الغالب- والتي تتآمر ضد أفضل النوايا الأميركية. لكنه أدرك أيضاً، كما قال لي، أن القليل جداً يتم إنجازه في الشؤون الدولية من دون قيادة الولايات المتحدة.
تحدَّث أوباما إلي من خلال هذا التناقض الواضح: “أريد رئيساً لديه شعور بأنه لا يمكنك إصلاح كل شيء”. ولكن من ناحية أخرى، “إذا لم نقم نحن بتحديد الأجندة، فإنها لن تكون هناك أجندة”. وشرح الرئيس ما يعنيه: “الحقيقة هي كالآتي: لم تكن هناك أي قمة حضرتها منذ أصبحت رئيساً حيث لم نضع نحن الأجندة، وحيث لم نكن نحن المسؤولين عن النتائج الرئيسية”، قال “ويصح ذلك، سواء كنت تتحدث عن الأمن النووي؛ سواء كنت تتحدث عن إنقاذ النظام المالي العالمي؛ أو إذا كنت تتحدث عن المناخ”.
في أحد الأيام، على الغداء في غرفة الطعام في المكتب البيضاوي، سألت الرئيس عن كيف يعتقد أن المؤرخين سيفهمون سياسته الخارجية. وبدأ يصف لي شبكة من أربعة مربعات تمثل المدارس الرئيسية لفكر السياسة الخارجية الأميركية. أحد المربعات سمّاه الانعزالية، وهو ما رفضه جملة وتفصيلاً. قال: “إن العالم يتقلص بلا توقف. والانسحاب منه لا يمكن الدفاع عنه”. أما الخانات الأخرى فسماها: الواقعية؛ التدخلية الليبرالية، والأممية. وقال: “أفترض أنك يمكن أن تسميني واقعياً في اعتقادي بأننا لا نستطيع، في أي لحظة مُعطاة، تخفيف جميع البؤس الحاضر في العالم”، قال. “علينا اختيار المكان الذي يمكن أن يكون لنا فيه تأثير حقيقي”. وأشار الرئيس أيضاً إلى أنه أممي بوضوح كامل، مكرس -كما هو حاله- لتعزيز المنظمات متعددة الأطراف والأعراف الدولية.
أخبرته أن انطباعي هو أن الصدمات المختلفة التي أنجبتها السنوات السبع الأخيرة، إذا فعلت شيئاً، فإنه تكثيف التزامه بضبط النفس المدفوع بالواقعية. فهل حرضه قضاء ما يقرب من فترتين رئاسيتين كاملتين في البيت الأبيض ضد النزعة التدخلية؟
قال: “مع كل عيوبنا، كانت الولايات المتحدة بوضوح قوة للخير في العالم. إنك إذا قارنتنا بالقوى العظمى السابقة، فإننا نتصرف أقل على أساس المصلحة الذاتية المجردة، في حين كنا معنيين أكثر بتأسيس أعراف وقواعد تفيد الجميع. إذا كان بوسعنا فعل الخير بكلفة يمكن تحملها، لإنقاذ الأرواح، فإننا سنفعل ذلك”.
أما إذا كانت أزمة أو كارثة إنسانية ما لا تلبي معاييره الصارمة لما يعتبره تهديداً مباشراً للأمن القومي، فقال أوباما إنه لا يعتقد بأنه يجب إجباره على الصمت إزاء ذلك. إنه ليس شخصاً واقعياً كثيراً -كما أشار- إلى حد عدم إصدار حكم على القادة الآخرين. ومع أنه استبعد حتى الآن خيار استخدام القوة الأميركية المباشرة للإطاحة بالأسد، فإنه لم يكن مخطئاً -كما أشار- عندما دعا الأسد إلى التنحي. وقال الرئيس: “في كثير من الأحيان، عندما يكون لديك منتقدون ليساستنا السورية، فإن واحداً من الأشياء التي يشيرون إليها هو: “كنتَ قد دعوت الأسد إلى الرحيل، لكنك لم تجبره على الرحيل. إنك لم تقم بغزو”. والفكرة هي أنك إذا لم تكن تريد الذهاب للإطاحة بالنظام، فإنه ما كان عليك أن تقول أي شيء. هذه أطروحة غريبة بالنسبة لي؛ فكرة أننا إذا استخدمنا سلطتنا الأخلاقية لنقول “هذا نظام وحشي، وليس هكذا يجب أن يعامل القائد شعبه”، -بمجرد أن تفعل ذلك، فإنك تكون ملزماً بغزو البلد ذلك وتنصيب حكومة تفضلها هناك”.
“إنني أممي كثيراً”، قال أوباما في حديث لاحق. “وأنا شخص مثالي أيضاً طالما أعتقد بأن علينا تعزيز قيم مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والمعايير والمثُل، لأن تبني المزيد من الناس للقيم التي نتقاسمها لا يخدم مصالحنا فحسب -وإنما لأنه يجعل العالم مكاناً أفضل. وأود أن أقول ذلك بلغة بسيطة ربما لن يستخدمها حتى برنت سكوكروفت نفسه.
وتابع أوباما: “أما وقد قلتُ ذلك، فإنني أعتقد أيضاً أن العالم مكان قاس ومعقد وفوضوي ولئيم، مليء بالمصاعب والمآسي. وحتى نمضي قدُماً بمصالحنا الأمنية وبتلك المُثل والقيم التي نهتم بها على حد سواء، فإننا يجب أن نكون صارمين، في حين نكون كبيري القلب أيضاً، وأن نختار وننتقي مواقعنا، وندرك أن أوقاتاً ستأتي حين يكون أفضل ما يمكننا فعله هو تسليط ضوء على شيء مريع يحدث، لكننا لا نعتقد بأننا نستطيع حله بطريقة آلية. سوف تكون هناك أوقات تتعارض فيها مصالحنا الأمنية مع مكامن قلقنا إزاء حقوق الإنسان. وستكون هناك أوقات حيث يمكننا فعل شيء للناس الأبرياء الذين يتعرضون للقتل، لكنها ستكون هناك أوقات أيضاً حيث لا نستطيع القيام بشيء”.
إذا كان أوباما قد شك وتساءل في أي وقت عما إذا كانت أميركا حقاً هي الدولة الضرورية التي غنى عنها في العالم، فإنه لم يعد يفعل قطعاً. لكنه الرئيس النادر الذي يبدو أنه يزدري في بعض الأحيان فكرة هذه الضرورة أكثر مما يعتنقها. قال لي: “الراكبون بالمجان يثيرون حنقي”. وفي الفترة الأخيرة، حذر أوباما من أن بريطانيا العظمي لن تعود قادرة بعد الآن على ادعاء وجود “علاقة خاصة” لها مع الولايات المتحدة إذا لم تلتزم بإنفاق 2 في المائة من ناتجها المحلى الإجمالي على الأقل على شؤون الدفاع. وقال أوباما لديفيد كاميرون، الذي أوفى في وقت لاحق بعتبة الاثنين في المائة المطلوبة: “عليكم أن تدفعوا حصتكم العادلة”.

(مجلة الأتلانتيك)

السابق
ليس عيداً أو نزهة.. لماذا قام بوتين بهذه الخطوة؟
التالي
فرنسا عززت اجراءات الامن في وسائل النقل بعد انفجارات بروكسل