الاستغباء الغبي

محمد علي مقلد

“استفعل” صيغة يستخدمونها في اللغة وزناً للاشتقاق، فيقال استلطف، أي رآه لطيفاً، واستفظع من الفظاعة، واستحسن من الحُسن. وللصيغة دلالات أخرى لا يستخدمها سياسيو لبنان، لأن هذه الدلالة بالذات تناسبهم أكثر من سواها حين يمعنون في التذاكي والتشاطر على جمهورهم. بعضهم يفعل ذلك من غير أن يدري أن ألاعيبه مفضوحة ومناوراته مكشوفة وحججه باطلة. هذا هو بالضبط الاستغباء الغبي. الاستغباء الغبي هو أن ينبري المسؤول ويلقي خطباً عن النزاهة والشفافية والحرص على المال العام، وهو يعرف، ويعرف أن الجمهور يعرف، أنه حصل ثروته وبنى قصوره ونظم حساباته المصرفية بقوة السلطة لا بالكفاءة ولا بالعصامية. ما أكثر هذه العينات عدداً وما أكثرها فجوراً. مع ذلك فالويل والثبور وعظائم الأمور لمن يتجرأ ويتهم سارقاً بالسرقة والإثراء غير المشروع. الاستغباء الغبي هو أن ينبري المسؤولون ويعلكون الكلام عن حل أزمة النفايات، مع أنه لا يخفى على عاقل ولا على جاهل أنهم كانوا يبحثون عن طريقة تتيح لهم تحاصصو النفايات ولا يسألون عن غير المردود المالي لكل فريق منهم. ثم أن ينبري مناضلو الحراك المدني، وهم مناضلون حقا، ويبعثروا الحراك المدني ويصرون على بعثرته، ليمنحوا المحاصصين فرصة تخريب موجة التحرك الشعبي الهائلة في آب 2015 والاستغباء الغبي هو أن ينتقل أحدهم من مدرسة الميليشيات إلى السلطة، مباشرة من غير إعادة تأهيل، ثم يلقي عليك محاضرات عن الدولة والقانون والمؤسسات. لقد طغت كثرتهم إلى حد استبعاد (على وزن استغباء) أصحاب الكفاءة. حتى المجلس التشريعي بات يخلو من المشرعين وراح يستنجد بكفاءات يستعيرها من خارج صفوفه. هو أن يحاول هؤلاء إقناعنا بأنهم “خير من تسعى به قدم” وأنهم منّة الله علينا وصفوته المختارة وهدية السماء إلينا، وأنهم هم حماة الديار والوطن من الانهيار ولولاهم لما تحررت أرض ولا أزهرت أشجار. فهل يصدقون أنفسهم حقاً؟ ألم يصل إلى أسماعهم أنهم، بلغتهم وتصريحاتهم السوقية مدعاة لخجلنا من أهل القيم والتهذيب والأخلاق. هو أن يصدر التيار الوطني الحر بياناً يحذر فيه من الخطر على الديمقراطية إذا ما تأجلت الانتخابات البلدية، فيما لا يرى خطرا عليها إذا ما امتنع هو، عشرات المرات، عن حضور الجلسات المخصصة لانتخاب رئيس للجمهورية.

النفايات

هو أن يصدق ميشال عون أنه مرشح حزب الله للرئاسة، ثم يصدق أنه مرشح القوات اللبنانية. أو أن يدعونا سمير جعجع لنصدق مسرحية الغرام بينهما. هذا يصنف من باب الاستغباء المكعّب، لأن الجاهل في الشأن السياسي، فكيف بالعارف، متأكد من أن كلا الطرفين لا يرغبان به رئيساً للجمهورية، وأن كلا منها يستخدمه لغاية في نفس يعقوب. وهو أن يقنعنا تيار المستقبل بترشيحه ميشال عون ثم سليمان فرنجيبة بالتتابع، على طريقة سباق البدل، في لعبة تخلو من براعة المناورة السياسية. ثم يرشقنا بمبررات الحرص على السلم الأهلي وعلى إعادة بناء الدولة، فيما يهب في وجه كل مشروع يهدف إلى إصلاح التمثيل السياسي، متمسكاً بأي قانون يؤمن له الأغلبية السنية، مع أنه لم يستفد من الأغلبية التي حصل عليها في دورتين انتخابيتين متتاليتين. هو أن يأمر حزب الله نوابه ومرشحيه بعدم حضور أي واحدة من جلسات المجلس النيابي الست والثلاثين المخصصة لانتخاب رئيس للجمهورية ثم يحمّل المملكة السعودية مسؤولية الشغور الرئاسي. ثم ينكر “بالثلاثة ” أنه يضمر بالتقية مشروع الدولة الدينية (ولاية الفقيه)، ويكرر على مسامعنا قسَماً يشبه قَسَم التجار أنه لا يريد مؤتمراً تأسيسياً، ويتباهى بقراره المستقل، مستقل حقاً عن لبنان واللبنانيين. هو أن يتدرج في تبرير سلاحه من تحرير مزارع شبعا إلى حماية المياه الجوفية إلى حماية النفط في البحر إلى السلاح لحماية السلاح، ثم إلى حماية القرى الشيعية على الحدود السورية اللبنانية ثم المقامات المقدسة في السيدة زينب ثم حماية اللبنانيين من التكفيريين، والحوثيين من السعودية، والبحرينيين من أميرهم. هو أن يتولى محللون وخبراء “استراتيجيون” إقناعنا بأن نزعة التكفير محصورة في تنظيم ديني واحد، وأن النظام البعثي الأسدي غمرنا بفضائله، وأنه، بعد أن استكمل مسيرته بنجاح دفاعاً عن وحدة الأمة، ها هو يتابع دفاعه عن وحدة سوريا، مستعيناً بالأصوليات والبراميل المتفجرة على شعبه المطالب بالحرية، مستدرجاً كل القوى العالمية لتخوض معاركها على أرض سوريا… طيب، إن اقتنعنا نحن، فمن سيقنع الشعب السوري يا حضرات الخبراء؟ من يستغبي الشعب اللبناني هو وحده الغبي. ننصحه بألا يتمادى حتى لا يتحول الاستغباء إلى استحمار. لقد آن أن تستقيل نفايات السياسة في وطننا.

(المدن)

السابق
أميركا والسعودية و«رعاة حزب الله»!
التالي
السيد محمد حسن الامين: فتاوى حسن الترابي للتجديد وتجاوز السائد‏