لتفعيل معنى يوم 8 آذار كيوم لتحرير المرأة

تحتفل دول عديدة في 8 آذار بيوم المرأة العالمي. فبعد مرور أكثر من قرن ونصف على بداية النضالات والمواجهات التي خاضتها النساء بوجه السلطات الحاكمة والمجتمعات لتحصيل حقوقها المشروعة، يتبين أن ما حقّقته على صعيد الحقوق والمساواة الجندرية، هو قليل إذا ما قيس بالتطور العام للمجتمعات في السياسة والاقتصاد والاجتماع والمعرفة. وبالطبع، لم تكن كل تلك المرحلة الطويلة متجانسة من حيث طبيعة النضال والأفكار التي طبعتها، إذ انها ارتبطت بالواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والفكري للدول التي انطلقت منها النضالات النسائية في أوروبا وتوسّعت الى خارجها، وتبدّلت بتبدّل كل تلك الظروف.

اليوم، في مجتمعاتنا الشرقية والعربية، يبدو النضال مشرذم الحجج، قليل الإنتاجية. بدليل أوضاع النساء الخاصة والعامة، الجهل والتخلّف، قلّة الوعي، كثرة الحروب، إخضاع لا يتزحزح، سلطة عائلية وحاكمية بطريركية… وكل ذلك بسبب إجحاف في سن قوانين حقوق النساء وفي تطبيقها إن وُجدت، عدم حمايتها قانونياً واجتماعياً من القتل والاغتصاب، عدم تسهيل مهمة الأمومة، استبعاد النساء من مراكز القرار، إبعادهن عن المشاركة الفعّالة في القضايا الوطنية وتلك التي تمسّ المجتمع وتطويره، عدم منحهنّ فرصة المساواة في العمل من حيث الأجر في حال وجود التكافؤ، عدم اعتبارهن ركنا أساسيا في التنمية الاقتصادية،عدم إشراكهن في الأحزاب السياسية والنقابات المهنية سوى كصورة للتنوع أو كتابعٍ أو وريثٍ عائلي، وعدم المساواة في الحقوق والواجبات، الضغط عليهن وإثقالهن بالتقاليد والموروثات…كما أنه كذلك، بسبب ابتعاد المنظمات النسائية الفاعلة عن إيجاد المشتركات الأساسية التي يمكن في حال علاجهن، تحقيق النهوض بواقع المرأة نحو الأفضل.

البدايات النضالية
تاريخياً، استطاعت المرأة ان تحقق الكثير. ففي أوروبا مهد البدايات النضالية النسائية، تكتّلت النساء في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في الأحزاب السياسية الاشتراكية والنقابات، تحت ضغط الظروف الاقتصادية والعمل اليدوي اليومي المضني. فقد فتحت الثورة الصناعية التي حدثت حينها الباب لعمل النساء في المصانع لتحقيق أرباح، ولكونهن أكثر عرضة لتقبّل الضغط من الرجال، وأكثر انضباطاً وطواعية في العمل، كما أن أجرهن الأقل، كان يحتّم عليهن استمرارية أطول في العمل لكسب القوت اليومي الضروري لإعالة العائلة.

في هذه الظروف الاستغلالية التي واجهتها النساء، برزت وجوه نسائية تحررية ناشطة في السياسة عملت على تنظيم النساء في منظمات ونقابات للمطالبة بالحقوق، وبتحسين ظروف الحياة، وببناء علاقات جديدة بين المرأة والرجل، وبإعادة مفهوم تكوين الاسرة القائم عل شكل من اشكال السلطة، كما على تأكيد الحق العام في الانتخاب، كما أنهن اعتبرن ان كل قضية نسائية هي قضية وطنية، وبالعكس. وكانت الاشتراكيات روزا لوكسمبورغ وكلارا زايتكين وألكسندرا كولونتاي، من أوائل النساء في اوروبا اللواتي عملن على تنظيم وتأطير العمل النسائي، وتحويله الى قوة سياسية فاعلة ضد الاستغلال، كما ضغطن من خلال تنظيم التظاهرات العمالية النسائية والاضرابات في الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا لرفع الأجور ولخفض ساعات العمل وتأمين الحماية خلاله ولوقف الحروب وللمشاركة السياسية على مدى خمسين عاماً.

التظاهرة الاولى
وفي الولايات المتحدة، كانت التظاهرة الاولى للعاملات في 1857 بمدينة نيويورك لعاملات النسيج احتجاجا على طول يوم العمل، وقد قُمعتها  الشرطة بوحشية. وبعد عامين تمّ تشكيل أول نقابة نسائية لعاملات النسيج في امريكا، ولكنها كانت ذات طابع نسوي وليس اشتراكياً على غرار نقابات اوروبا.لاحقاً، ظهرت حركات نسائية من الطبقات الوسطى تطالب بحق المرأة في المشاركة بالحياة السياسية، واولها حق الاقتراع. وعُرفت بإسم “سوفراجيست” ، وهي ناضلت ضد العبودية ولانتزاع حق الاميركيين الافارقة بالمساواة. وحين مُنعت النساء اللواتي شاركن في هذه الحركات من الخطاب من اجل حقوق السود لكونهن نساء، قمن بتشكيل حركة نسائية للمطالبة بحقوق المرأة ايضاً. كما تبنّت منظمات #اشتراكية مطلب حق الاقتراع للنساء، مما جعلها في موقع قيادة ائتلاف المنظمات النسائية والتي لم تكن صبغتها اشتراكية، وقررت عام 1908 الاحتفال بيوم المرأة في يوم الاحد الاخير من شهر شباط.

وفي 23/2/1909، تم الاحتفال بهذا اليوم لأول مرة،إذ خرجت تظاهرات نسائية ضخمة في المدن الاميركية الكبيرة شاركت فيها نساء من الطبقة العاملة والطبقات الوسطى، اشتراكيات وغير اشتراكيات. وبرزت بين المشاركات في المهرجان في نيويورك، لينورا اورايلي من “اتحاد النقابات النسائية”.

أما في روسيا، فقد تمكنت مئات آلاف من النساء اللواتي يعانين الامية والاضطهاد والتهميش، من احتلال مركز الساحة السياسية وتغييرالوجه الانساني لروسيا. فنتيجة النمو المتسارع للصناعةوانتقال مئات الألوف من الأقنان السابقين للانخراط بقسوة في العمل، وُلدت الطبقة العاملةمن الرجال والنساء، وتمركزت. ساهمت النساء في الإضرابات العمالية الضخمة وفي مقاومة الشرطة في سان بطرسبرغ العام1896 . ولاحقاً، تأسست حركة نسائية بورجوازية طالبت بالمساواة الكاملة عقب الثورة الأولى العام 1905،فتصدّت لها الناشطة السياسية ألكسندرا كولونتاي، كي لا يتم تمييع وعي العاملات واستغلالهن.

وعملت كولونتاي على جبهتين: ضد الحركة النسائية البورجوازية، وإنشاء نادي العاملات للاهتمام بشؤونهن. كما عملت نظرياً على توعية الحركة النسائية عبر محاضرات وكرّاسات وكتب، ونظمت المؤتمر النسائي الأول في كل روسيا العام 1908، تمكنّت من خلاله النساء من طرح قضاياهن، وكانت غالبيتهن من العاملات الأميّات. ثم زارت فرنسا والمانيا وانكلترا، وساهمت في تنظيم اضرابات ربّات البيوت ضد غلاء المعيشة، واطلّعت على الدور الذي تلعبه النساء في النقابات العمالية. كما زارت الولايات المتحدة ملقية عشرات المحاضرات ضد الرأسمالية والحرب الاستعمارية.

وفي شباط العام 1917، اندلعت بشكل عفوي مسيرة نسائية ضخمة نظمتها عاملات وزوجات جنود وأرامل، للمطالبة ب”الخبز لاولادنا” و”العودة لازواجنا من المتاريس – وبانهاء الحرب”. ولم تستطع الشرطة الردّ، واستمرت التظاهرات الأربعة ايام انتهت بسقوط القيصر نيقولاي الثاني وانهيار نظامه الاستبدادي. وفتحت هذه الثورة النسائية المجال لثورة العمال الاولى في التاريخ، ثورة اكتوبر 1917 الكبرى.

العمل الحزبي

في العام 1910، انعقد المؤتمر العالمي الثاني للنساء الاشتراكيات الديموقراطيات برئاسة كلارا زايتكين، وبمشاركة وفد نسائي اميركي لنقاش أمور ملحّة تساهم في تطوير واقع النساء العاملات والمستغِّلات، وكان نقاش موضوع حق الاقتراع. هذا الحقّ، كان يُمنح في المانيا حسب مقاييس طبقية،ويمنع النساء من مجرد المشاركة في اجتماع سياسي وليس الانتخابات فقط. وفي المؤتمر نجح اقتراح زايتكينالمطالِب بحق الاقتراع للجميع على حساب حق الاقتراع الجزئي، كون حق الاقتراع الجزئي يتجاوز قضية المرأة ليصبح وسيلة حماية لامتيازات الطبقات المالكة دون تفرقة جنسية، على حساب الطبقات مسلوبة الحقوق،وستستغله النساء من الطبقة المالكة للإعتراف السياسي الذي حظين به ضد الطبقة العاملة كلها، وضد النساء الفقيرات. أما المطلوب، فوقوف المرأة العاملة بوجه من يحدّ من قوتها ويسعى الى استغلالها من الطبقات المالكة ومن النظام الرأسمالي..فحق الاقتراع الجزئي سيعزز قوة الطبقات المالكة، وسيتحول الى وسيلة لإدامة عبودية الجماهير المستغلة سياسيا واجتماعياً.وأدى قبول هذا الاقتراح الى انشقاق تنظيم نسائي في بريطانيا رأى في حق الاقتراع الجزئي خطوة بالاتجاه الصحيح. وفي نهاية المؤتمر تكرس اليوم العالمي للمرأة.

أما في اوروبا، فكانت الحركة النسائية متأثرة بالعمل الحزبي الاشتراكي، حيث نُشرت مجلة “مساواة” للعاملات العام 1892، التي تولّت تحريرها كلارا زايتكين، ونشطت من خلالها في تنظيم العاملات في أطر نسائية سياسي مستقلة عن التنظيمات النسائية البورجوازية. وهي حاكت بذلك وتناغمت مع أسلوب نضال الكسندرا كولونتاي في روسيا.

التغيرات في أفكار ونضالات المنظمات النسوية
شهد القرن العشرين تغييرات كبيرة في الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.فالليبيرالية والعولمة، وسقوط النظام الاشتراكي مع تقدّم للأفكارالمحافظة في الغرب، انعكس سلباً على نشاط وانتاجية المنظمات النسائية، كما على أفكارها وتوجهاتها وسبل نضالها، حيث اتجهت غالبيتها ضمن اقتصاد السوق ايجاًباً أو سلباً. وتخلّت معظمها عن القضايا النسائية والمجتمعية والسياسية والفكرية الأساسية التي طبعت مرحلة طويلة من النضال، نحو أمور منفصلة فردية غير مترابطة تهتم بشؤون نسوية تفصيلية سيكولوجية وجنسانية وعرقية راديكالية، تهتم باللغة والثقافة متأثرة بأفكار ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة… لا يخدم تحقيقها ان حصل تطور المرأة والمجتمع.

تطوير المنظمات النسوية
لا بد من إنكباب الإختصاصيين على دراسة الحركة النسوية العالمية بتاريخيتها، بإنجازاتها وتخلّفها دراسة نقدية تأخذ بعين الاعتبار المتغيرات العالمية، وبخصوصية المجتمعات وباختلافاتها وبأولوياتها. فلا النظرة الاشتراكية او الليبيرالية لقضايا المرأة استطاعت إنجاز الطموح المطلوب. فالتكامل النظري بين كل ما يُطرح يفتح أفقاً جديداً لتحرير المرأة، فتحرّرها هو بداية تحرر المجتمعات، فلا العلم او الثقافة وحدهما استطاعتا ذلك، ولا التحرر الاقتصادي والعمل المنتج يستطيعه وحده. فحلّ مجموع التعقيدات التي تلفّ مجتمعاً محدّداً، من الوعي الى العلم والثقافة والانتاجية لا تكفي ان لم يتوازى مع حلّ مسألة الهيمنة، هيمنة فئة على أخرى تستقوي بنظام العلاقات البطريركية المتجذّر عميقاً في التفكير والسلوك كشكلٍ تاريخي واقتصادي وسياسي،ومؤسس لكل عملية اضطهاد. وهنا يمكن الاستنتاج انطلاقاً من التراجع الكبير في تحصيل الحقوق وفي واقع المرأة المزري في مجتمعات كثيرة وخصوصاً منها الشرقية والعربية، بإن تحالف نظام سياسي يقوم على الاستغلال والاستعباد والاستبداد مع بطريركية ذكورية مجتمعية ثقافية، تتبدّى بأشكال عنف وعدوانية قاتلتين بالمعنى الحرفي للكلمة، هو ما يجب إيلاءه العمل المطلوب.

فلتنشط النساء في مجتمعاتنا، ولتنتظم في منظمات نسائية وحراكية تحمل بعداً تحررياً اجتماعياً،سياسياً، اقتصادياً وثقافياً خارج طوائفها ومذاهبها وسلطاتها وأحزابها التي فشلت في تحقيق الحدّ الأدنى لمحدودية امكانياتها الفكرية في فهم مجتمعاتها، ولتواجه ولتتحدَّ الثقافة البطريركية اولاً، بكلمة أوبموقف أو بدعمٍ تكافلي، فلا العلم ينقص ولا الثقافة، بل الموقف الجريء ووعي الذات لذاتها.
تحية لنسائنا المعانيات وللمشاركات في تخفيف المعاناة.

(النهار)

السابق
«السعودية» لمكاتب السفر في الكويت: أوقفوا الحجز إلى لبنان
التالي
ترحيل اللبنانيين رحمة للعالمين