أي مستقبل للمستقلين عن طوائفهم في لبنان

علي الأمين
تتسارع وتيرة الاحداث اللبنانية مما يجعل أي إمكانية لتوقّع تداعياتها ونتائجها أمراً شبه مستحيل. لكن منذ اندلاع «الربيع العربي» ظل لبنان بمنأى عن النيران المشتعلة في المنطقة. وذلك بإرادة داخلية وخارجية قلقة وقائمة على توازنات طائفية أسهمت في لجم توترات أمنية وسياسية وأبقت البلد في منأى عن انجرافه نحو التدهور الكبير.

اذا كان لا بد من الاعتراف بهذه الميزة «اليتيمة» للتنوع الطائفي اللبناني، فان التكتلات الطائفية على نحو تشكّلها مجدداً في حقبة ما بعد الحرب الاهلية، ضيّقت الخناق أكثر فأكثر على الأصوات السياسية المغردة خارج طوائفها أو المتفردة الساعية الى خلق مساحة حرة لها خارج بيئاتها الاهلية والطائفية.

إقرأ أيضاً: «حزب الله» يهدر دم «جنوبية».. الأمين: مستمرون بشكل طبيعي

تاريخيا، ارتكزت الحياة السياسية في لبنان، بمؤسساتها النيابية التمثيلية، وسلطتها التنفيذية على التوزيع الطائفي. لكن طغيان الطائفية والتكتلات الطائفية لم يكن يوما حاسما وحادا كما هو اليوم. فحضور الطوائف والطائفية يتعدى اليوم المؤسسات الدستورية والتمثيلية والحكومية ليتكرس في بنية المجتمع اللبناني، سواء في التوزع الديموغرافي او في ممارسات الشؤون الاجتماعية والحياة اليومية. أما الحروب الملبننة فظهّرت النزاعات الطائفية ودفعتها الى اقاصي العنف، ولم تؤسّسها. وهي نزاعات غذّتها عوامل خارجية كالوجود الفلسطيني والهيمنة السورية.

الثنائي الشيعي والمستقلون
بعد اتفاق الطائف، الذي وضع حدا للحرب، ثبّتت التيارات الحزبية والسياسية الأقوى زعامتها واحتكارها لطوائفها حتى باتت مرادفا لهاً. على الطائفة الشيعية هيمن الثنائي الشيعي حزب الله وحركة امل، جاعلا منها كتلة صلبة متراصّة يصعب اختراقها. واستقطب هذا الثنائي معظم نخب العائلات الشيعية السياسية التقليدية. من بقي خارج هذا التكتل الصلب رافضا استراتيجية الحزبين المهيمنين، يواجه تحديات لا تقارن بسواها.
هم «المستقلون» على ما اصطلح على تسميتهم لدى الطوائف الأخرى، و«الخونة العملاء» الخارجون عن الاتجاه العام الممثل لمصلحة الطائفة بمنظار أبناء بيئتهم. وفي ظل هيمنة السلاح ووهجه، لاشك في أن أي موقف سياسي يسجله هؤلاء المستقلون بين الفينة والأخرى يدخل في خانة البطولة:

غرباء في الضاحية
«نشعر أننا غرباء عن طوائفنا وعن بلدنا»، على ما تقول الكاتبة ومديرة دار الجديد للنشر رشا الأمير، وهي ابنة بيت سياسي، لا تزال مقيمة في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت. «أعيش في مكان لا يشبهني فيه أحد، لكن هذا لا يمنعني من الاستمرار والحياة. نحن أقلية وغرباء عن الأماكن التي تنتج حروباً أهلية».
الحروب الكبرى تنتهي، ولكن الحروب الصغيرة تستمر، برأي رشا الأمير. يتفاعل المستقلون الشيعة «عن بُعد» كسواهم في الحياة السياسية. فالانخراط في صلب المؤسسات التمثيلية محظور عليهم، وغيابهم عن أي قرار يبقيهم أبرياء من أي شبهة بالتحريض والفتنة والحروب. جلّ ما هو متاح لهم إصدار البيانات وكتابة المقالات وإضاءة الشموع. و«لا أفق أمامنا سوى رفع سقف الصوت. نحن رهائن طوائفنا»، تقول الأمير.

إلغاء التنوع
الصحافي والناشط المستقل علي الأمين، الذي يتعرض حاليا لحملة تخوين كبيرة يقوم بها {حزب الله} يرى أن الاصطفاف المذهبي والطائفي هو الوسيلة الفضلى لمصادرة العقل لحساب العصبية، ولتعويم الشعبوية على حساب المنطق وحسن الاختيار. وأن الصراع على النطق باسم الطائفة، ساهم في إلغاء الحياة السياسية اللبنانية، وجعلها محاصصة وزبائنية أفرغت المؤسسات الدستورية من معناها. هكذا حلّ الفساد والإفساد والغي مفهوم المواطنية والفردية، وتعطلت المحاسبة في الإدارة العامة وفي الانتخابات التي تحوّلت إلى تناحر عصبيات.
وفي رأيه أن التنوع المسيحي ظل إلى حدّ ما، لاجماً لشهوة البعض من القيادات المسيحية الى النطق باسم المسيحيين واحتكاره. أما في المجال الإسلامي فساهمت القيادات السنية والشيعية المسيطرة على التمثيل النيابي، وبتفاوت نسبي بين المذهبين، (تفاوت القوة وليس تفاوت قيمي) في استثمار العصب المذهبي من أجل إلغاء أو تهميش كل تنوع داخل المذهبين. لذا شاع منطق التكفير، ومعياره الخروج على إرادة زعيم الطائفة. وطُم.سَ التنوع السياسي داخل الطوائف الإسلامية لتشهد حالة من التصحر غير المسبوق على المستوى الفكري والثقافي.
التنوع داخل الطائفة ينحسر عندما يسيطر خطاب حقوق الطوائف وتتراجع مقولة حقوق المواطن. لذا من يتقدم المشهد السياسي اللبناني اليوم هم الأكثر قدرة على استنفار العصب المذهبي والطائفي. أما من يخاطب العقل والمنطق فهو في خانة الخارج على الملة والطائفة.

السنّة والحريرية السياسية
برغم التوتر السياسي الذي عرفه تيار المستقبل منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، ورغم الإبعاد الطوعي لرئيسه الحالي سعد الحريري سنوات عن لبنان -يزوره في المناسبات الوطنية الكبرى- لايزال تيار المستقبل صاحب التمثيل الأكبر للطائفة السنية في لبنان.
يسجل للتجربة الحريرية الوليدة ما بعد اتفاق الطائف، محاولتها إخراج الحياة السياسية من إطارها الطائفي البحت عبر محاولة استقطاب واستيعاب مختلف المكونات على امتداد الخريطة اللبنانية. وذلك رغماً عن إرادة الوصاية السورية التي كرّست نفسها على الدوام المرجعية الوحيدة لربط وحل أي نزاع بين الطوائف.
غني التذكير بأن من تجرأ على كسر ما تمليه الوصاية السورية تعرّض للاغتيال. الأمثلة كثيرة: من المفتي حسن خالد الذي عبّر عام 1988 عن موقف ضد السياسة السورية في حرب التحرير بين ميشال عون والجيش السوري، وانتهاء برفيق الحريري.

«المستقبل» عابر للطوائف
يرفض النائب عن كتلة المستقبل احمد فتفت مقولة «سنية» تيار المستقبل او احتكاره للطائفة السنية. ويؤكد أنه تيار عابر للطوائف، وخصوصاً على صعيد التمثيل النيابي. فينضوي تحته شيعة ومسيحيون ودروز إلى جانب السنة.
يذكّر فتفت ايضا بتنوع الاتجاهات داخل الطائفة السنية. فتيار المستقبل لا يحتكر تمثيل الطائفة السنية التي تضمّ الجماعة الإسلامية وأشخاصا مستقلين لهم حيثيتهم السياسية، مثل رئيسي الحكومة، السابق نجيب ميقاتي، والحالي تمام سلام، والنائب محمد الصفدي. كما تضم الطائفة من هو مؤيد لحزب الله، مثل النائب السابق جهاد الصمد ورئيس التيار الشعبي الناصري النائب أسامة سعد في صيدا.

المسيحيون والمصالحة الأخيرة
خرج المسيحيون من الحروب الأهلية بجراح ثخينة انعكست انقساما سياسيا حادا بين قطبيها البارزين: التيار الوطني الحر وحزب القوات اللبنانية.
بعد اغتيال الحريري وعودة عون من فرنسا، وبدايات نشوء الصراع السني – الشيعي، التحق كل فريق من الفريقين المسيحيين بطائفة أو محور، فصار للشيعة فريقهم المسيحي، وصار للسنة فريقهم المسيحي ايضا. الانقسام المسيحي هذا والذي تغنى به بعض المثقفين العارفين بتاريخ لبنان السياسي في زمن ما قبل الحرب، شكل للسواد الأعظم من المسيحيين استمرارا لسلسلة الهزائم، ورأوا فيه أحد مسببات انحدارهم في مؤسسات الدولة من قمة هرمها حتى أدنى وظائفها.
بعد حروب دامت 26 عاما، وبعدما ظلت حتى الامس القريب بعيدة المنال، تحققت المصالحة القواتية – العونية التي أيدها، بحسب استطلاعات الرأي %85 من المسيحيين. وبعد ترشيح كل من سعد الحريري وسمير جعجع (القوتان الرئيسيتان في فريق 14 آذار) لكل من سليمان فرنجية وميشال عون (من فريق 8 اذار)، أتت هذه المصالحة لتضيّع الحدود بين الفريقين اللذين حكما الحياة السياسية في لبنان منذ اغتيال الحريري.
على مضض رحبت بقية المكونات المسيحية بهذه المصالحة. واتجهت الأنظار الى المستقلين ممن بنوا مسارهم السياسي او ممن يطمحون في بنائه بمعزل عن أحزاب طوائفهم: أي دور لهم يعوَّل عليه في ظل الحديث عن ان المصالحة تتعدى الترشيح الرئاسي الى تحالف انتخابي شامل؟ وهل ستطيح هذه المصالحة بطموح المستقلين المشروع أسوة بغيرهم من بقية الطوائف؟

لسنا ثنائياً قاهراً
يجيب النائب عن كتلة القوات اللبنانية أنطوان زهرا عن هذا التساؤل مميزاً بين: «ثقافتنا» السياسية القائمة على التنوع، وثقافة الآخرين. «لا يمكن ان نقلد الثنائية الشيعية في اقصاء من لا يلتزم أفكارها». فالمصالحة المسيحية لا تلغي التنوع، بل العدائية. يطرح زهرا سؤال من هو المستقل؟ هل يمكن تصنيف النائب بطرس حرب مستقلا، على سبيل المثال؟ والنائب اميل رحمة الذي اتى بأصوات حزب الله هل هو مستقل؟
لا ينفي زهرا ان التفاهم بين الأحزاب الرئيسية المسيحية لن يسمح بهامش كبير لحركة المستقلين، كما يطيح بمحاولات البعض الالتفاف على الاجماع المسيحي بمحاولة «تجميع» للمستقلين لموازنة الأحزاب الرئيسية. وينهي كلامه قائلا: «كل شخص او مكوّن سيأخذ حجمه الطبيعي».

نوفل ضو: مصالحة التيار والقوات قد تسمح باحتكار التمثيل المسيحي
الاعلامي وعضو الامانة العامة لقوى 14 اذار، نوفل ضو يشدد على ان الدور السياسي لأي كان «يؤخذ ولا يعطى». لذا لا يرتبط دور المستقلين المسيحيين بالمصالحة بين عون وجعجع، بل «بقدرتهم على مخاطبة الرأي العام ونجاحهم في تقديم أنفسهم كأصحاب مشاريع وتطلعات تترجم رغبات الرأي العام وأهدافه». ولا ينكر ضو أن المصالحة قد تسمح باحتكار التمثيل المسيحي اذا تبعتها تحالفات انتخابية.
لكن هذا لن يقيم ثنائية مسيحية مماثلة للثنائية الشيعية التي «تصادر الرأي العام الشيعي بقوة السلاح، وتمنع أي مستقل شيعي من لعب أي دور سياسي»، بحسب ضو الذي يرى أن المسيحيين اختبروا مخاطر احتكار التمثيل المسيحي باحاديات وثنائيات مسلحة. لذا «لا يمكن للمسيحيين أن يقدموا احادية أو ثنائية، في مرحلة تتميز بصراع سني – شيعي».
وعلى الرغم من الانشطار العمودي في المجتمع اللبناني بين معسكري 8 و14 آذار، فان ضو يؤكد ان الشراكة المسيحية – الإسلامية داخل كل من المعسكرين حافظت على الحد الأدنى من الصفة السياسية للصراع. اما ارتداد كل طائفة الى بيئتها لمواجهة الطائفة الأخرى، فمن شأنه أن «ينسف الأسس التي قام عليها الكيان اللبناني».

المؤرخ عبد الرؤوف سنّو: لبنان على شفير الهاوية
يتساءل الأستاذ الجامعي عبد الرؤوف سنو في كتابه «لبنان الطوائف في دولة ما بعد الطائف»: هل بإمكان لبنان تخطي الحالة الطائفية المزرية المتواصلة منذ تأسيس دولة لبنان الكبير، والتي تعززت برعاية من الخارج في كثير من الأحيان، وبثقافة اللبنانيين القائمة على «الأنا» و«الآخر»؟ وهل يمكن «تبريد» الطائفية المجتمعية أو التخفيف من حدتها بإلغاء الطائفية السياسية، مع احتفاظ كل طائفة بخصوصياتها وثقافتها (التعددية الثقافية)؟

إقرأ أيضاً: كلنا «جنوبية»… بوجه الباسيج

في لقاء القبس مع المؤرخ سنو لا يبدو انه متفائل بأي مستقبل للمستقلين في لبنان، بسبب غياب الديموقراطية وتعطيل المؤسسات، وعجز المجتمع المدني عن ممارسة أي ضغط سياسي أو اقتصادي: «الطائفية أصل البلاء، ولبنان يمر اليوم في أسوأ وضع له». تجييش من قبل حزب الله ضد آل سعود يقابله تجييش من قبل تيار المستقبل نصرة للسعودية. ما المطلوب اليوم؟ تقديم لبنان لإيران او الرضوخ لمطلب حزب الله بعقد مؤتمر تأسيسي؟ الوضع خطير، وضع لبنان الاقتصادي في عشايا الحرب الاهلية 1975 كان قوياً. أما اليوم فقطاعات الخدمات والسياحة والتحويلات شبه منهارة.

السابق
فضل شاكر: أحمد الأسير أشرف من راسن!
التالي
في أبراج اليوم الجمعة… توتر وهدوء ونجاحات!