يقال إن المدن الأولى كالمنازل الأولى، لا هي تغادر الأشخاص، ولا هم يغادرونها، في أي أرض طاب بهم المقام، أو في أي سماء، ولا بد أن يعودوا إليها، بالجسد حينا وبالتذكار أحيانا.
ويقال إن مكة رغم قسوتها على رسول الله وعلى دعوته، ورغم ما حققه وأنجزه في دولة المدينة، ظلت وكثبانها وشعابها ونخلها وأهلها يسكنون وجدانه.
إقرأ أيضاً: مقابلة «حذفتها الرقابة» عن الخصوصية الشيعية للسيد هاني فحص
هكذا كانت النبطية في ذاكرة أبي، منزله الأول الذي صادر حنينه بأكمله، رغم كل المنازل التي ألفها على وجه هذه الأرض، ورغم التباعد والتباين وبعض التناقض والكثير من الاختلاف أحيانا.
وكما كان للرسول “في مكة جبل نحبه ويحبنا”، كان لأبي في النبطية حجر وشجر وبشر يحبهم ويحبونه. ولا أقصد هنا التشبيه بالرسول، لأقطع الطريق على مقدسي النصوص منذ البداية، بل لأقول إن الإنسان يألف الكثير من الأماكن خلال مسيرة حياته، لكن الأماكن الأولى، تلتصق بذاكرته، وتصبح جزءا منه، من تكوينه، من شخصيته ومن هويته.
عاشت النبطية في وجدان أبي نصا غير مكتمل، لا لعيب في بنائه، بل لأن اكتماله يعني إغلاقه وإعطاءه مدلولا نهائيا، يفقده دهشة الأسئلة وحيرة الاحتمالات.
وعاش فيها متواصلا مع الجميع، وكان الجميع يشبهونه في انفتاحهم وطموحهم ونبذهم للتعصب والمواقف المتشنجة والاتهامات الجاهزة.
ما كان في مقدور أبي أن يبادل النبطية كرمها وحفاوتها به آنذاك، إلا بالحب، وبالحب تدوم الذكريات والحياة والعلاقات. سقى الله تلك الأيام..
شكلت النبطية مساحة التجربة الأولى التي انطلق منها أبي، نحو مساحات التجارب الأوسع، وفتحت له أولى النوافذ التي أطل منها على الشأن السياسي بعمقه الوطني وبعده القومي، وأيقظت وعيه على قلق معرفي محايد تناغم مع قلق وجداني مندفع، ومن أبوابها خرج نحو العالم، داعية سلام وحوار وانفتاح، يحث الناس على الخروج من سلطة المسلمات واليقينيات، التي أورثتنا التصلب والتحجر والانغلاق، والدخول في سلطان الحب، لأنه منة إلهية ومتعة إنسانية.
فيها رأت عيناه للمرة الأولى في علية زعل سلوم، كيف تكتب القصائد بالألوان لا بالحروف، فيها آمن بأن أسطورة الفينيق، يمكن أن تنزع عنها صفة الخرافة، يوم شهد ولادة عفيف قديح من الرماد، فيها أدرك أن الشفافية والنزاهة والصدق ليست قيما فقط، بل رجل يمشي وينام ويأكل ويشرب ويتكلم مع الناس وله اسم هو عادل صباح، فيها تعلم استخدام الصورة الشعرية والبديع والبيان من شاعر قال له الليل سلم على ليلى نصار، وفيها قرأ في مكتبات أخواله مشايخ آل الزين كل ما يمكن أن يروي نهم جائع إلى العلم والمعرفة والثقافة، من أصغر مقال في جريدة مغمورة إلى أكثر النصوص جدلا وتعقيدا وكثافة.
تستذكر النبطية اليوم، من لم ينسها يوما، وتطل بعيونها الحانية على وجه الفتى القروي، الذي كان يأتيها مشيا على قدميه ليتعلم في مدارسها، عائدا على جناح طابع بريدي.
هاني فحص رجل الدين، الذي لم يعرف له مذهب سوى الحب، صاحب العمة السوداء المعقودة على شكل قلب أبيض، الذي ثار على طبائع الاستبداد في عالم العمامات، منتهجا طابع الاعتدال.
إقرأ أيضاً: في ذكرى غياب استاذنا السيّد هاني فحص
وساعي المحبة الذي ظل يطرق أبواب المتباعدين والمتخاصمين والمتكارهين ليقرأ عليهم رسائل الغفران والرحمة والاعتذار، فاتسعت جبته حتى أصبحت صندوق بريد بحجم الوطن.
هاني فحص ، يطل مرة أخرى من غيابه، روحا عامرة بالشوق، ووجها طافحا بالطهر واللطف والوداعة، في صورة على طابع بريدي، كاد أن يكون عاديا، لولا تلك السماحة، السابقة للعمامة، الآتية من الابتسامة.