تشترونها لاعتقادكم بأنّها صالحة للشرب.. حقائق مرعبة عن شركات المياه في لبنان

“إذا تبيّن أن اللحوم فاسدة، ربّما نأكل الحبوب أو الخضار… لكن في حال تلوّثت المياه ماذا سنشرب؟”. هي عبارةٌ تختصر زبد قصّة واقع قطاع المياه في لبنان، لكن إشكاليّتها لا تحمل معها جواباً. يكفي بنا القول أن نسبة شركات المياه المرخّصة بلغت حتى عام 2015 نحو 27% من مجموع المصانع التي تبيع مياه الطاولة الى المواطن، بحسب ما أشارت وزارة الصحّة اللبنانيّة. والمضحك المبكي في المسألة، أن “العلل” التي تشوب هذه المصانع متنوّعة، وهي لا تندرج في إطار معضلةٍ واحدة، بل تتفرّع الى مشكلاتٍ جمّة تشمل نوعيّة المياه المبيعة ومصدرها وطريقة التصنيع والتقنيات المستخدمة خلالها. حتّى إن بعض المؤسّسات لا تتحلّى بأدنى المعايير الشكليّة التي تدل على أنها شركةٌ لبيع المياه، فيخالها المارّة مكاناً مهجوراً. ولعلّنا في حال عدنا بالزمن الى الوراء وسألنا “أخوت شاناي” عن حلٍّ لأزمات المياه المتلاحقة التي نشهدها، لاقترح علينا ما قاله لحاشية الأمير بشير يوم دبّر خطّة جرّ مياه نبع الصفا الى القصر الشهابي: “فليحفر كلٌّ منكم قبره بيده في خطٍّ طويل نحو النبع”. الفرق بين الأمس اليوم، أن نصيحة ذلك المجنون كانت مجرّد كذبة بيضاء حينها، لكنّها أضحت الآن حقيقةً سوداء، تحالف على تظهيرها الزمن.

عقدٌ من التجارة المربحة
كلمة حقٍّ تقال، مفادها أنه ولولا تدخّل وزير الصحّة وائل ابو فاعور للحدّ من فساد قطاع الغذاء في لبنان، لكنّا اليوم نسير في اتجاهٍ خطير، لطالما مشيناه من دون علمنا به ولعشراتٍ من السنوات. عقدٌ من الزمن الغابر، عبّر عنه الطبيب المسؤول في وزارة الصحّة، الدكتور بلال عبدالله في حديثه الى “النهار”، سارداً أن “قطاع شركات ومصانع المياه في لبنان تشوبه ثغراتٌ وعلامات استفهام منذ زمن، حيث نما خارج إطار أي مراقبة خلال الفترة السابقة وأضحى تجارةً مربحة يتخذها كلّ من أرادها مصدر عيشٍ له وبسهولة تامّة”. ويتابع أنه “خلال تسلّم الوزير ابو فاعور مهمات وزارة الصحّة وتبنّيه حملة سلامة الغذاء، بدأنا نكتشف حقائق مثيرة للسخط تشوب هذا القطاع وعلى أصعدة عدة”. ويلخّص العيوب التي تعتري قطاع المياه المبيعة على أساس أنها صالحة للشرب بـ 4 مفترقات. الأول يكمن في أن بعض الشركات تبيع مياهاً ملوّثة جرثوميًّا والثاني باعتبار بعضها يغشّ فيبيع المواطن مياه الشرب التابعة للدولة والتي أصلاً تصل الى المواطن والثالث في إمكان احتواء المياه على صرفٍ صحيّ وهذا ما تبيّن في العيّنات التي أجرتها وزارة الصحّة فيما سبب تلوّثها يعود لرداءة البنى التحتيّة واهتراء القساطل ما يسبّب اختلاطها بالمياه المبتذلة فتصل الى المنازل ملوّثة. ويشير الى أن المعضلة هنا تكمن في “لجوء بعض الشركات الى بيع هذه المياه التي يهرب من استهلاكها المواطن اللبناني لكنّه يعود ويشتريها من غير علمه. أمّا المفترق الأخطر صحيًّا فهو بيع المصانع مياهاً غير صالحة للشرب نظراً إلى تركيبتها الكيميائيّة الغنيّة بالمعادن، على رغم عدم تلوّثها جرثوميًّا، مما قد يسفر عن فشلٍ كلويٍّ مزمن.

اقرأ أيضًا: تلوث المياه يسمم الخضار والفاكهة!

“ما هي الإجراءات التي تبادر وزارة الصحة الى اتخاذها للحدّ من فوضى شركات المياه غير المرخّصة؟”، يشير عبدالله الى أن “مراقبي الوزارة يكثّفون حملات الرقابة وأخذ العينات وقد أعطينا مهلاً زمنيّة نهائيّة لتسوية أوضاع المخالفين المتعاونين وأقفلنا العديد من الشركات التي لم تتعامل بإيجابيّة، فيما البعض لجأ الى قطع الطرقات تعبيراً عن رفضه لقرار الإقفال. لكن شريحة واسعة من المصنّعين بادروا الى تحسين أوضاعهم وسافروا خصيصّاً بهدف تحديث الفلترات بما يتناسب والشروط المطروحة”. ويشدّد على أن المواطن يتحمّل جزءاً من المسؤوليّة، حيث عليه التنبّه الى ضرورة شراء المياه المرخّصة من وزارة الصحّة والتي تخضع لفحوصٍ دوريّة، حيث يظهر شعار الترخيص جليّاً على العبوة”.

300 معمل مرخّص من أصل 1100
يكفي التدقيق في نسبة مصانع وشركات #المياه اللبنانيّة غير المرخّصة لمعرفة حجم الفوضى التي كان تعتري هذا القطاع قبل تدخّل وزارة الصحة. الواقع المستفّز عبّرت عنه المنسّقة العامّة لحملة سلامة الغذاء في وزارة الصحّة المهندسة جويس حداّد التي تؤكّد في حديثٍ إلى “النهار” أن “عدد المعامل المرخّصة من وزارة الصحّة بلغ 300 معمل من أصل 1100 ما يعني أن النسبة لا تتجاوز 27% من اجمالي عدد المصانع، في حين أن المشكلات الجذريّة تطرح في “غالونات” الـ10 ليترات”. وتلفت الى أن “85% من الشركات غير المرخّصة غير مستوفية للشروط الصحيّة وتعاني مشاكل جديّة في التصنيع، في حين أن 95% من المصانع المرخّصة مطابقة للمواصفات”. وتؤكّد أن المشكلة تكمن في أن المياه هي مكوّن اساسي يحتاج إليه الإنسان ما يفاقم إمكان الإصابة بالأمراض والأوبئة نظراً إلى حتميّة استهلاكه، لكنها وفي الوقت نفسه تطمئن أن اجراءات وزارة الصحّة دقيقة وبالتالي فإن الانطباعات حيال المرحلة المقبلة ايجابيّة والوضع لن يكون أسوأ من الذروة التي كان قد وصل اليها سابقاً.

تفادياً لنتائج لا تحمد عقباها
حين لا يلجأ المواطن الى التعقيب على الأزمات الصحيّة التي قد تطرأ على صحّته نتيجة شربه مياهاً غير مستوفية للشروط الصحيّة، لأنه قد يعتقد أساساً أنها صالحة للشرب. يعزّز هذا التصوّر الصورة الاستهلاكيّة التي تتغلّف بها الشركات وتظهرها محطّ ثقة. لكنّ القالب الشكلي لم يكن يوماً صورة مماثلة لحقيقة الأمور ما يستوجب عليه الحذر وتوخّي الحيطة. وفي هذا الإطار، تشير الاختصاصيّة في الالتهابات الجرثوميّة في مستشفى رزق الدكتورة رلى سماحة الى أن “شرب المياه التي تحوي آثار صرفٍ صحيّ قد يؤدّي الى التهابٍ في الأمعاء او التهابات حادّة في الجسم كالسالمونيلا في حال حملت المياه المبتذلة الجرثومة”. وتشير الى أن “كثرة المعادن في المياه تؤدّي الى ارتدادات جمّة تؤثّر على الكلى خصوصاً في صفوف أولئك الذين يعانون أصلاً المشاكل والذين يحتّم عليهم عدم أخذ كميّات كبيرة من الصوديوم والبوتاسيوم والماغنيزيوم، في حين أن إمكان استشعار المياه التي تعاني خللاً في التركيبة الكيميائيّة من خلال مذاقها الذي يتّصف بالطعم الحدّ”. وتحذّر من مخاطر شرب المياه التي تحوي على الكلور خصوصاً في صفوف الأطفال، لأن هذه المادة توضع بهدف الإستخدام المنزلي وحسب. وتؤكّد أن “الحلّ الأمثل يكمن في شراء المياه التي تتخذ النبع العالي مصدراً لها، ونحن جميعنا نعلم أسماء الشركات النموذجيّة في لبنان التي تعتبر محطّ ثقة من المواطن والمرخّصة من الوزارة”.

الإصلاحات تشمل البلاط والفلترات والخزّانات والسنكريّة
خلال بحثنا عن أبرز شركات المياه التي قامت بإصلاح أوضاعها بما يتوافق مع شروط وزارة الصحّة، كان لنا حديثٌ مع رئيس شركة أكوابييرو الأستاذ أندريه باسيل، الذي يلخّص في حديثٍ إلى “النهار” أبرز مراحل التجديد والتطوير التي شهدتها الشركة: “نفّذنا الشروط التي طلبتها الوزارة حيث استقدمنا شركة هندسة خطّطت للإصلاحات التي شملت البلاط والفلترات والخزّانات والسنكرية وماكينات التكرير والتعبئة والتهوئة، وبلغت كلفة الورشة نحو 53 ألف دولار”. ويشير الى أن “وزارة الصحة وبعد أخذها عيّنات جديدة للمياه تبيّن أنها مطابقة للمواصفات ونحن اليوم بانتظار توقيع الوزير وائل بو فاعور على طلب الترخيص الذي تقدّمنا به”. ويعتبر أن “جميع شركات المياه راغبة في التطوير والتحسين، لكن المشكلة التي قد يواجهونها ماديّة أو بانتظار تأمين مصادر التمويل من القروض المصرفيّة”.

حمل العام المنصرم معه نكهةً اضافيّة ضمّت الى ويلات قطاع المياه في لبنان. انها القمامة التي جرّحت صورة لبنان أكثر وانعكست على مجمل قطاعاته. بعد الصرف الصحي والمعادن الثقيلة والجراثيم، عسى أن لا نشهد مياهاً بنكهة #النفايات تحت شعار “صالحة للشرب”. وإذا كان المواطن اللبناني قد اعتاد فعلاً مشهديّة “الزبالة”، فإنه لربّما سيتقبّل التحديث الجديد الذي قد يطرأ على منتج الحياة الأساسيّ، فيشربه من دون تذمّر. أما أخوت شاناي، وفي حال التسليم بفرضيّة عودته اليوم لاقتراح حلٍّ لمعضلات وطنه الفقير ومواطنه الغائب، ما كان ليقول؟ بتنا لا نريد منه حلّاً لأزمة المياه… بل لأزمة حفر كلّ مواطنٍ قبره بيده.

(النهار)

السابق
انهيار سقف منزل على مسنة في قاع الريم
التالي
حشرة الصندل تتكاثر في أحراج الضنية والاهالي ناشدوا الجهات المعنية مكافحتها